The web site of grycncrt

قصة قصيرة مترجمة: للكاتب الياباني هاروكي موراكامي بعنوان: عضو مستقل

An Independant Organ - Haruki Murakami

عضو مستقل

(أو ... قيس بن الملوّح الياباني)

قصة عن طبيب تجميلي يخبرنا فيها الراوي عن جرّاح مستمتع بعلاقاته المبهمة وغير المشروعة مع نساء ثم يجوّع نفسه حتى الموت بعد الوقوع في غرام إحداهن حيث أنه يجمل الناس بمبضعه مثلما كان قيس بن الملوح الشاعر يجمل الجميلات بكلماته وهذه القصة أيضا يتداعى معها إلى الذهن حديث ابن المقفع (*) عن النساء في كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير عن التحذير من الوقوع في غرام النساء.

* * *

صفحة القصة في قودريدز

وردت القصة في مجموعة رجال بلا نساء :

هنالك أناس في هذا العالم -والشكر لعوز الفطنة الفكرية - يعيشون ياللدهشة، معيشة مصطنعة. لم أصادف الكثير منهم، لكن هنالك بكل تأكيد قلة منهم. والدكتور توكاي كان أحدهم.

حتى يتمكن أصحاب هذه الأرواح المهذبة كما تسمى من النجاة في هذا العالم المشوّه، فإن هذا النوع من الأشخاص يحتاجون لضبط كل يوم، مع هذا ففي معظم الحالات ليسوا على وعي تام بمقدار التجويد الممل واللازم للقيام بذلك.

فهم إجمالا مقتنعون بأنهم سذّج يعيشون حيوات خالية من الدوافع الخفية  أو الحيل. وحينما، في بعض الأحيان، يسلط ضوء ما عليهم، كاشفاً كم هم مصطنعون وغير حقيقين في كنه حيواتهم الداخلية، تأخذ الظروف حينها منحاً مأساوياً، وأحيانا هزلياً، على نحو ما. بطبيعة الحال، هنالك العديد من هؤلاء الأشخاص -بوسعنا أن ندعوهم مباركين- لم يتعرضوا بحال للضوء، أو أنهم رأوه وتخارجوا منه غير منزعجين.

أحب أن أسجل كل شيء تعلمته عن هذا الرجل المسمى توكاي. معظمها نشأ من أشياء قال لي عنها مباشرة، مع أن بعض الأمور المعينة مبنية على معلومات أخبرني عنها مقربون منه، أشخاص وثق بهم.  باعتراف الجميع، كم لا بأس به مما سأسجله مبني على التخمين، بحسب ملاحظتي الشخصية بشأن أشياء أظن أنها ربما تكون صحيحة. أسدُّ الثغرات في نظرتي تلك مثلما تملأ كبد الإوز المعجونة الثغرات بين كل تخمين وآخر. بكلمات أخرى، التفاصيل التالية ليست مبنية تماماً على حقائق تامة.

ككاتب لهذه القصة، لا يمكنني أن أوصي القارئ بأن يتعامل معها كدلائل مقدمة في محاكمة، أو وثائق داعمة في مجال إدارة الأعمال (بالرغم من أن أي شكل من أشكال الأعمال التجارية يمكن أن يحدث هنا، لا أدري).

لكنك إذا رجعت عدة خطوات إلى الوراء متباطئاً (آخذا بالحسبان مقدما، مع الاعتذار منك، أنك لا تقف أمام حافة جبل) وأن تنظر إلى الصورة في القصة من بعيد، فأنا متأكد بأنك ستتفهم أن مصداقية كل تفصيل منمنم ليس في الحقيقة مؤثراً. كل ما يهم هو أن تظهر لك صورة واضحة للدكتور توكاي.

على الأقل، هذا ما آمله، ككاتب. كان توكاي، باختصار -كيف يمكنني قول هذا؟- من الأشخاص الذين لا يثيرون كما هائلاً من عدم الفهم.

لا يمكن القول بأنه كان بسيطاً، شخصاً يسهل الوصول إليه. كان معقداً بطرق ما، شخصاً متعدد الطبقات، يصعب إدراكه. ليس لدي أدنى وسيلة لأعلم شكل الظُلمة الكامنة في لا وعيه، أو نوعية الآثام التي من الممكن أنه حمل وزرها.

مع هذا، وبناءً على أنماط سلوكه الثابتة، فإن تأليف صورة عامة دقيقة لهو أمر سهل نسبياً. وبالنسبة لكاتب محترف فإن هذا يبدو غطرسة صغيرة مني، لكن هذا هو انطباعي في وقتها.

توكاي في الثانية والخمسين من عمره، لم يتزوج قط، لم يساكن امرأ حتى.

يعيش في شقة بغرفتين في الدور السادس من مبنى أنيق في حي آزابو الأنيق في طوكيو. أعزب صميم، كما يمكنك القول.

يتولى العناية بمعظم الأعمال المنزلية بنفسه -الطبخ، غسيل الملابس، الكوي، التنظيف- والبقية تتولاها جهة مختصة بتنظيف البيوت والتي تأتي مرتين في الشهر.

 هو شخص منظم أساساً، لذا لم يكن من الصعب عليه أن يُبقي منزله نظيفاً. عندما يتطلب الأمر، يمكنه إعداد كوكتيلات لذيذة على السريع. ويمكنه طهي معظم الأطباق، من حساء اللحم بالبطاطس إلى سمك السيباس بالفرن. (ومثل معظم الناس الذين يستمتعون بالطبخ، لن يُقصر في الواجب، فتجد كل الأطباق التي يُعدها تحوي أفضل المقادير ولذيذة دائماً). لم يشعر أبداً بالحاجة لامرأة في المنزل، لم يشعر بالملل وهو يقضي وقته منفرداً، ويصعب أن يشعر بالوحدة وهو معتاد على أن ينام وحده. إلى حد ما، هذا هو الحال.

يدير ويعمل كجراح تجميلي في عيادة توكاي للتجميل في روبونغي، والتي ورثها من والده. طبيعي أن لديه فرصا عديدة لملاقاة النساء. ليس شخصاً يمكن أن تقول عنه بأنه وسيم، لكن لديه سمات مقبولة – لم يفكر قط بعمليات تجميلية لنفسه – و، لأن العيادة تعمل جيداً، فقد كان يحصل على مرتب عالٍ. نشأ نشأة طيبة، بآداب حسنة واهتمام حريص على الثقافة، لا يحتار في العثور على مواضيع تصلح للحوار. لا يزال محتفظاً برأس مليئ بالشعر (مع أن بعض الشعر الرمادي بدأ يظهر)، ومع أنه بدأ في اكتساب بعض الأرطال في وزنه، فإن تريضه في النادي يساعده للاحتفاظ بمظهر شبابي. يمكن للناس أن يشعروا بسلبية تجاه صراحته، لكنه لم يواجه عنتاً في مواعدة امرأة.

 

لسبب ما، منذ أن كان شاباً، لم يُرد توكاي أن يتزوج وأن يكوّن عائلة. كان متأكداً أنه لا يتلائم مع الحياة الزوجية. لذا فمهما كانت المرأة جذابة، كان يبتعد اذا استشعر أنها كانت تبحث عن شريك دائم. وكنتيجة لهذا، فمعظم النساء اللواتي اختارهن كرفيقات كن متزوجات أو كن على علاقة بصديق آخر. وما دام قادراً على المحافظة على هذه الترتيب، فإن أي واحدة منهن لم تكن ترغب في أن تتزوجه.

ولتوضيح الأمر أكثر، فإن توكاي كان دوما رفيقاً ثانيا غير رسمي، رفيقاً ملائماً ليوم ماطر، أو غير هذا شريكا مناسباً في علاقة عابرة. وبصدق، كان توكاي بطريقته في مثل هذا النوع من العلاقات، والتي كانت بالنسبة له أريح الطرق ليكون مع امرأة. فإن أي ترتيب آخر -من النوع الذي ترغب فيه المرأة بشريك حقيقي – يجعله غير مرتاح وقلق كما لو كان على شفا جرف هار.

لم يكن يزعجه تحديداً أن تعاشر المرأة رجلا غيره. العلاقة الجسدية كانت، في آخر المطاف، جسدية فحسب. وكطبيب، هذا ما آمن به توكاي، وكانت المرأة التي تواعده تشعر بشعور نفسه. أمل توكاي حينما يكون مع امراة، هو أن تفكر فيه فقط. وكل ما يطرأ على بالها خارج الوقت الذي يكونان فيه مع بعضهما هو شأنها الشخصي، وليس أمراً يعنيه ليفكر به. التدخل في حياتهن خارج حدود علاقته بهن كان خارج نطاق البحث.

 بالنسبة لتوكاي، فتناول العشاء مع هؤلاء النسوة، الشرب معهن، كانت متعة فريدة. كان الجنس مجرد متعة مضافة، لكنه لم يكن الهدف الأساسي. كل ما كان يتطلع إليه دوما هو الترابط الحميمي، الثقافي مع عدد من النساء الفاتنات. ما يعقب ذلك من أمور هي أمور تحدث وحسب. لذلك، يجد النسوة أنفسهن بطبيعة الحال منجذبات نحوه، مستمتعات بقضاء الوقت معه، وغالباً ما يتولين زمام المبادرة. شخصياً، معظم النساء في العالم (بالذات الجميلات حقاً منهن) يضقن ذرعاً بالرجال اللائي يرمون دوماً لجذبهن إلى الفراش.

يجول ببال توكاي أحيانا أن يحصي عدد النساء اللواتي كانت له هذه العلاقة بهن طوال ثلاثين سنة مضت. لكن العدد لم يكن ليعنيه أبداً. كانت جودة التجربة هدفه. ولم يكن يدقق في المظهر الخارجي للمرأة. ما دام لا يوجد نقص واضح في مظهرها يثير اهتمامه العملي كجراح تجميلي، وما دامت لا تبدو مملة في مظهرها إلى الدرجة التي تجعله يتثائب، كان ذلك كافياً. لو كنت قلقاً بشأن مظهرك، وكان لديك من المال المدخر ما يكفي، بوسعك أن تختار مظهرك بأي طريقة تودها (وكخبير في هذا المجال، كان يعرف العديد من الأمثلة الرائعة).

والذي كان يفضله في المرأة أن تكون ذكية، سريعة-البديهة مع حس فكاهة. لو كانت امرأة فائقةً الجمال لكنها لا تملك شيئاً تقوله، ولا رأياً يعبر عنها، فإنها ستجعل توكاي يتراجع. لا توجد عملية جراحية بوسعها أبدأ تحسين المهارات الفكرية لامرأة. أن تحظى بحديث ممتع على العشاء مع امرأة ذكية، أو تخوض معها أحاديث متمهلة صغيرة بالقرب منها في الفراش – تلك هي اللحظات كانت يذخرها ويقدرها.

لم يحدث قط أن تعرض لمشاكل خطيرة مع النساء، وهو أمر جيد، لأن الصراعات العاطفية اللزجة لم تكن تناسبه بكل تأكيد. لو حدث، لسبب ما، أن لاحت غيوم النحس السوداء للاحتكاكات المعيقة في الأفق، كان يعرف كيف يتراجع عن العلاقة بمهارة، حذراً من تفاقم الأمور، وحذراً ألا يؤذي المرأة. كان يقوم بهذا سريعاً وبعفوية، مثل ظل يغيب في غسق الليل المتراكم. كان مسلحاً بكل التقنيات الأساسية كأي أعزب محنك.

كان يقطع العلاقة مع كل واحدة من صديقاته بانتظام. وذلك في لحظة مناسبة ما من علاقته بكل النساء المرتبطات برفاق غيره، يقول، "أنا متأسف، لكنني لا أستطيع رؤيتك بعد الآن. سأتزوج قريباً." يأتي قرار الزواج في معظم الأحيان قبيل بلوغهن عمر الثلاثين أو الأربعين. يتخلص منهن تماماً مثلما تروج وتباع التقاويم السنوية بربح جيد قبيل انتهاء السنة.

كان توكاي دائما يتلقى أخبار رغبتهن بإنهاء العلاقة بهدوء، بابتسامة حزينة ملائمة. إنه لمن العار أن ننفصل، لكن ماذا بوسعك أن تفعل؟ لم يكن يناسبه الزواج، مع ذلك، فالزواج وبالأسلوب المتبع فيه، يعتبر مؤسسة مقدسة، يجب على المرء أن يحترمها.

في تلك الأوقات قد يشتري للمرأة هدية زفاف ثمينة. "تهانينا على الزواج،" كان يقول لها. "كم أنتِ امرأة ذكية، ساحرة ومحبوبة. آمل أن تكون سعيدة حقاً – أنتِ تستحقين أن تكوني كذلك." وكان حقاً يشعر بهذا. فهؤلاء النسوة كن قد شاركنه جزءً ثميناً من حيواتهن، وهذا الأمر، إذا ألغينا كونه لا يتأمل أن يترك أثراً أصيلاً لديهن، كان يمده بالدفء والأوقات الجميلة. لهذا الأمر وحده كان ممتناً. أي مزيد أشياء يمكنه أن يطلب منهن؟

لكن حوالي ثلث النسوة اللاتي عقدن رباط الزواج المقدس كن في آخر المطاف، بعد عدة سنوات، يهاتفن توكاي ويسألنه أن يلتقينه من جديد. وكان دوماً سعيداً جداً ومسروراً للانخراط معهن في علاقة – وبالتأكيد علاقة غير نقية – معهن. فتراهم يتحولون من علاقة عابرة بين شخصين أعزبين إلى علاقة معقدة بين رجل أعزب وامرأة متزوجة – والتي جعلت الأمر برمّته أكثر متعة. وما يفعلانه معاً كان تقريباً مماثلا لما سبق، على رغم من جدارته في إدارة علاقته بهن. بقية الثلثين من النساء اللاتي يتزوجن لا يعدن أبدا للاتصال، ولم يعد يراهن أبداً. كن، كما يظن، يعشن سعيدات، حياة زوجية تامة، كزوجات رائعات، وكما يتصور، مع بضع أطفال.

في تلك الحالة، كان توكاي سعيداً من أجلهن. في هذه اللحظة تماماً هنالك رضيع يلتقم نهداً رائعاً داعبه بحب في وقت مضى.

معظم أصدقاء توكاي كانوا متزوجين، ولديهم أطفال. وكان يزور منازلهم مرات لا على التعيين، لكنه لم يشعر بالغيرة منهم. عندما يكون أطفالهم صغاراً، يجدهم فاتنين، لكنهم بمجرد أن يكبروا إلى المرحلة المتوسطة أو الثانوية، فكل واحد منهم يميل سلوكه للفظاظة، فيكرهون البالغين، ويتسببون في كل أنواع المشاكل الناشئة عن التمرد ضد والديهم، ويختبرون بكل قسوة أعصاب والديهم.

قد يفكر الوالدان فقط بأداء أبناءهم الأكاديمي وبكيفية حصولهم على القبول في أعلى أماكن التعليم تقييماً، لذا فإن درجاتهم المدرسية السيئة تصبع معركة دائرة مع الوالدين. نادراً ما يتحدث الأبناء في المنزل، عوضاً عن ذلك يختبئون في غرفهم للتحدث على الشبكة مع أصدقاءهم أو تستبد بهم مشاهدة أشياء مخلة غير صحية.

ليس بوسع توكاي أن يرغّب نفسه في الحصول على أبناء كهؤلاء. كل أصدقاءه يصرون أنه، عندما يحصل ما يحصل في الزواج، فإن رزق الذرية يعد أمراً مدهشاً، لكنه لم يتمكن من قبول هذا العرض التسويقي. لربما كانوا راغبين في تحميل توكاي نفس المسؤولية التي وقعواً فيها. كانواً مقتنعين بأنانية بأن كل أحد غيرهم في هذا العالم يجب أن يُلزم بالمعاناة مثلما عانوا.

أنا نفسي تزوجت مبكراً ولا أزال، لكنني لم أرزق بأطفال. لذا فإلى حد ما بوسعي فهم وجهة نظره، مع أني أرها نظرة تبسيطية قليلاً، وفيها مبالغة. في أحيان أظن أنه محق. مع ذلك، بطبيعة الحال، ليست كل الحالات بائسة. في هذا العالم الكبير هنالك عائلات جميلة، سعيدة يتقارب فيها الوالدان والأطفال، في علاقات دافئة، هذه الحالات تشبه في حدوثها مدى تسديد لاعب الكرة ثلاثة أهداف في مباراة واحدة (هاترك). لا أثق بأني سأكون أحد هؤلاء الآباء النادرين السعداء، ولا أرى توكاي بوسعه القيام بذلك أيضا.

تجنباً للمخاطرة في أن يساء فهمي، يمكنني أن أعتبر توكاي شخصاً حسن المعشر. لم يكن فقيراً فاشلاً، لا يشعر بالنقص ولا بالغيرة، لا انحيازات أو غطرسة، غير مهووس بأشياء معينة على وجه التحديد، ولم يكن حساساً على الإجمال، لم يكن له توجه سياسي بيّن. وكل ما يظهر على السطح، على الأقل، يُظهر أنه لم يكن لديه أي صفات يمكنك أن تربطها بشخصية مضطربة.

أحب الناس من حوله دقته، شخصيته الصريحة، سلوكه الناصع، وتوجهه النفسي المرح والإيجابي. وكان توكاي يبحث عن نفس هذه الصفات لدى المرأة – المرأة التي تمثل نصف سكان العالم – عندما نتحدث استراتيجياً وبطريقة فعّالة.

اللطف والاهتمام بالمرأة، بالنسبة لشخص يعمل في مهنته تلك، تعتبر مهارات أساسية لقيامه بعمله، وبالتالي كانت في شخصية توكاي وفي طبيعته – كانت صفاتاً أساسية فيه، مزايا فطرية، تماماً مثل الصوت الجميل، والأصابع الطويلة. وبسبب هذا (بالطبع، لأنه كان جراحاً ماهراً)، حققت عيادته نجاحات ضخمة. ورغم أنه لم يكن يعلن عنها، فجدول مواعيده كان دائما ممتلئاً.

كما يعلم القراء دون شك، أن الأشخاص حسني المعشر غالبا سطحيون، عاديون، مملون. توكاي، مع ذلك، لا يُظهر أياً من هذه الصفات. كنت دوماً أستمتع بالاستراخاء لساعة في نهايات الأسبوع معه، نتناول بضع زجاجات من الجعة. كان محاوراً ممتازاً، عنده ثروة من المواضيع.

كان حس الفكاهة لديه دوماً مباشرة، غير معقد البتّة. أخبرني بالعديد من الأشياء التي تحدث وراء الستار لقصص العمليات التجميلية (مع الحفاظ دائما على خصوصية الزبائن مع العيادة، بطبيعة الحال)، وكان يكشف عن عدد من الحقائق الفاتنة عن النساء. ولم يكن، ولا مرة، ينحط لاستخدام كلمات سوقية.

كان دائما يتحدث عن صديقاته النساء بالكثير من الاحترام والتعاطف، ويأخذ بالاعتبار إبقاء المعلومات الخاصة سرية.

"لا يتحدث الرجل المحترم كثيراً عن الضرائب التي يدفعها، أو المرأة التي يعاشرها،" كما قال لي مرة.

"من قال هذا؟" سألته.

"أنا قلتها،" قال، ولم يرف له جفن. "بالطبع فإنني في بعض الأحيان أحتاج للحديث عن الضرائب مع محاسبي الخاص."

لم يجد توكاي أبداً أي غضاضة ليرتبط بصديقتين أو ثلاث في الآن ذاته. كانت المرأة إما متزوجة أو كان لها صديق، لذا فإن لقاءاتهم تأخذ مكانها حسب الأسبقية، وهكذا كان يُقسّم الوقت الذي يقضيه معهن. كان يشعر بأن ارتباطه بعدة صديقات أمراً طبيعياً وحسب، ولم يجده أبدأً خيانةً زوجية. مع هذا، لم يكن ليذكر أحدهن أمام الباقيات، حيث كان يطبق سياسة حازمة بشأن ماذا يجب أن يُعلم في هذه العلاقة أو تلك.

كان هناك في عيادة توكاي سكرتير مُنجز يعمل معه منذ سنوات. نسّق هذا الرجل جدول توكاي المعقد مثل ضابط برج مراقبة طيران محنك. لم يقم بترتيب جدول أعمال توكاي فقط، مع الوقت، تولّى مهمة إدارة جدولة المواعدة الشخصي لتوكاي.

كان على علم بكل تفصيل مختلف عن حياة توكاي الشخصية لكنه لم يتحدث عنها قط، ولم يبد عليه الإنزعاج بشأن استمرار انشغاله، واستمر في أداءه بكفاءة متصلة. كان جيداً في التحكم بحركة السير، وهكذا بقي توكاي على مبعدة من أي كارثة وشيكة الحدوث. من الصعب قليلاً التصديق بذلك، لكنه احتفظ حتى بجداول الدورات الشهرية لصديقاته. عندما يسافر توكاي مع امرأة، كان السكرتير يحجز تذاكر القطاع والفنادق. من غير هذا السكرتير المتمكن ما كان لحياة توكاي أن تكون بهذا الترتيب والصفاء. وحتى يشكره على كل ما فعل، حرص توكاي على إعطاء هذا السكرتير الوسيم (والذي كان، بطبيعة الحال، شاذاً) هدايا متى ما حانت مناسبتها.

لحسن الحظ، لم يكتشف قط أي من الأزواج أو الأصدقاء علاقة هؤلاء النسوة بتوكاي، لذا لم يصادف أي مشكلة كبرى تذكر، ولم يقع في مواقف محرجة أيضا. كان حذراً، شخصاً حريصاً وأنذر صديقاته بأن يكن حذرات مثله. كان ينصحن بثلاثة أمور: خذي وقتك ولا تجبري الأشياء على الحدوث؛ لا تقعي في أنماط سلوك متوقعة؛ وإذا استلزم الأمر أن تكذبي، احرصي على إبقاء الكذبة بسيطة. (كان تطبيق هذه النصائح من قبلهن صعباً طبعاً كمثل تعليم فقمة الطيران، لكنه حرص على توجيههن بذلك على كل حال.)

ليس أن الأمور جرت بدون أية مشاكل تماماً. الموازنة بين عدة علاقات آنية طوال الوقت كان لابد وأن يحيط به بعض المشاكل.

حتى القرد يخطئ في أحيان بالإمساك بفرع شجرة ويسقط. أحد صديقاته أثارت شبهات صديقها مسببة اتصاله بالعيادة وطلبه تفاصيل عن حياة الطبيب الشخصية، وتفاصيل عن أخلاقياته. (سكرتيره الحاذق استخدم قواه في دفع اتهامات الرجل للطبيب.)

كانت هناك امرأة متزوجة واحدة التفّت علاقتها به أكثر من اللازم قليلاً، رست حبال مرساتها من غير قابلية للفكاك، وسببت بعض الإشكال لتوكاي. صادف أن زوج المرأة كان مصارعاً مشهوراً. لكن هنا، أيضا، أمكن تفادي المشكلة. تمكن الطبيب من أن تفادي كسر محتمل في كتفه.

"ألستَ محظوظاً فحسب؟" سألته.

"من المرجح،" قالها، وابتسم. "من المرجح أنني كنت محظوظاً فحسب. لكنني لا أظن بأن هذا هو السبب وحده. في أقصى خيالاتي أتسائل هل أنا ذكي لهذا الحد، لكني أحياناً أتفاجأ من كم الذكاء الذي يمكنني بلوغه."

"ذكي،" كررت عليه.

"إن الأمر يشبه – كيف يمكنني أن أحكي لك؟ - أن يعمل عقلي فجأة عندما تصبح الظروف حرجة أجاب توكاي متمتماً. لم يكن بوسعه أن يستحضر مثالاً جيدأً. أو ربما كان متردداً في أن يشرحه لي

"بالحديث عن سرعة الانسحاب من علاقة خطرة،" قلت، "أتذكرُ مشهداً من فيلم للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو (François Truffaut). تقول فيه امرأة لرجل، "بعض الناس مهذبون، وبعض الناس سريعون. كلاهما ميزتان من الجيد أن يتحلى بهما الشخص، لكن ميزة السرعة كانت تغلب التهذيب معظم الوقت." هل شاهدت هذا المشهد مرة؟"

"لا، لا أظن ذلك،" قال توكاي.

"ذكرت المرأة مثالاً. كأن يفتح رجل الباب ليجد امرأة عارية في الداخل، وهي تغير ملابسها. سيقول الرجل المهذب، المعذرة، سيدتي، ويغلق الباب سريعاً. أما الشخص السريع فسيقول "المعذرة، سيدي".

"فهمتك،" قال توكاي، بصوت منبهر. "هذا تعريف مثير للاهتمام. أظنني أعرف أنهم سيدركون كل شيء. كنت في مثل هذا الوضع مرات عديدة."

"أفي كل مرة كنت متمكناً من استخدام رشاقتك الذهنية لتنجو بنفسك؟"

نفحني توكاي نظرة حادة. "لم أرد أن أبالغ بشأن نفسي. في الحقيقة كنت محظوظاً. أنا ببساطة رجل مهذب، محظوظ. هذه لربما أفضل طريقة لفهم الوضعية."

على كل حال، استمرت حياة توكاي الموسومة بالحظ للاستمرار لثلاثين سنة. وقت طويل، لو تفكرت فيه. لكن في يوم ما، وبمفاجأة إلى حد ما، وقع بعمق في الحب. مثل ثعلب ذكي وجد نفسه فجأة في فخ.

كانت المرأة التي أغرم بها تصغره بست عشرة سنة، ومتزوجة. وزوجها، يكبرها بسنتين، ويعمل لشركة تقنية معلومات أجنبية، وكان عندهما طفلة واحدة. فتاة عمرها خمس سنوات. استمرت مع توكاي في المواعدة لسنة ونصف.

"سيد، تانيمورا،" سألني مرة، "هل حاولت مرة جاهداً ألا تحب شخصاً أكثر من اللازم؟" كان هذا في أوائل الصيف، كما أتذكر، بعد سنة من تعارفنا لأول مرة.

"لا أظن ذلك،" أخبرته.

"وأنا أيضا، حتى هذه اللحظة،"

"تحاول حقاً ألا تحب شخصاً ما أكثر من الحد اللازم؟" قلت له.

"بالضبط. هذا ما أفعله الآن."

"لماذا؟"

"الأمر سهل، في الحقيقة. لو أحببتها كثيراً، فهو أمر مؤلم. لا أستطيع التحمل. لا أظن أن قلبي قادر على تحمله، وهو سبب محاولتي ألا أقع في الحب معها."

بدا جاداً تماماً. خلت ملامحه من أثر أي مزاحه المعروف.

"ماذا فعلت، بالضبط، كيلا تقع في حبها أكثر من اللازم؟"

"حاولت كل شيء،" قال. "وكل الطرق تقودني لمحاولة التفكير عمداً بسلبياتها قدر ما أستطيع. أفردت قائمة ذهنية بكل نواقصها التي يمكنني التفكير بها -كل عيوبها، إذا كان يمكنني القول. كنت أعيد تكرارها في رأسي مثل تعويذة، مقنعاً نفسي ألا أحب هذه المرأة أكثر مما يجب."

"هل نجحت الطريقة؟"

"لا، ليس كما يُرام." هز توكاي رأسه. "بداية، لم أتمكن من العثور على العديد من السلبيات عنها. ثم هنالك هذه الحقيقة وهي أنني أجد كل سلبياتها جذابة. وشيء آخر هو أنني لا أستطيع أن أحدد بنفسي أي حد يعتبر تجاوزاً، وأي حد يعتبر مقبولاً. إنها المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها بهذه المشاعر المجنونة."

"لقد واعدت العديد من النساء لكنك لم تخرج عن طورك قبل هذه المرة؟" سألته.

"هذه هي المرة الأولى،" قالها الطبيب ببساطة. ثم استحضر ذكرى قديمة من أعماقه. "تعرف، كانت هناك فترة قصيرة، حقيقة، في المرحلة الثانوية، عندما شعرت بأمر مماثل. وقت يجعلني عندما أتذكر شخصاً محدداً أشعر بألم في صدري ولا أستطيع التفكير في شيء غير ذلك ... لكن هذا كان شعوراً من طرف واحد لم يسترسل إلى أي شيء. اختلفت الأمور الآن.

أنا شخص بالغ، ونحن على علاقة جسدية الآن. مع هذا، فإن عقلي في فوضى عارمة. كلما فكرت فيها أكثر، كلما تأثرت جسدياً، تتأثر أعضاء جسدي الداخلية. بالخصوص الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي."

صمتَ، كما لو أنه يتفقد هذين الجهازين.

"حسبما تقول،" قلت، "يبدو أنك تحاول جاهداً ألا تقع في غرامهاً عميقاً، وتأمل في الوقت نفس ألا تفقدها."

"تماماً. إنه تناقض، أعرف. انفصام. أرغب في أمرين متعاكسين في الوقت نفسه. لن ينجح الأمر، مهما حاولت. لكني لا أستطيع التعامل معه. لا يمكنني فقدها. لو حدث هذا، سأفقد نفسي."

"لكنها متزوجة، وعندها طفلة."

"صحيح."

"كيف ترى علاقتكما؟"

أخفض توكاي رأسه واختار كلماته بعناية. "أنا أفترض فقط، وافتراضي يجعلني أكثر حيرة. لكنها أخبرتني بوضوح شديد أنها لا تنوي الانفصال عن زوجها. هنالك طفلة يجب ان تؤخذ مصلحتها بالاعتبار، ولا تريد لأسرتها أن تتفكك."

"مع هذا استمرت في رؤيتك."

"ما نزال نحاول إيجاد الفرص حتى نلتقي بعضنا. لكن من يدري عن المستقبل. تخاف أن يكتشف زوجها علاقتنا، وقالت أنها قد تكف عن رؤيتي يوماً ما. وربما يعرف فعلاً وحينها يجب أن نتوقف عن رؤية بعضنا. أو ربما ببساطة قد تتعب من علاقتنا.

لا أملك أدنى فكرة عما في غدٍ."

"وهذا أكثر ما يرعبك."

"نعم، عندما أفكر في مثل هذه الاحتمالات، ليس بوسعي التفكير في أي شيء آخر. إنني بالكاد أتناول الطعام."

تعرفت على الدكتور توكاي في نادٍ صحي بالقرب من منزلي. كان يذهب إلى النادي في صباحات نهاية الأسبوع ليلعب السكواش وانتهى بنا المطاف أن نلعب عدة مباريات سوياً. كان خصماً جيداً ومهذباً وفي صحة جيدة، ولا يهتم كثيراً لأمر الفوز، ولقد استمتعت باللعب ضده. كنت أسن منه بقليل، لكننا كنا من نفس الجيل (حدث هذا في فترة مضت) وكان لديه نفس مستوى القدرات فيما يتعلق بالسكواش. كنا نتعرق ونحن نلاحق الكرة في الملعب، بعدها كان يقصد قاعة شرب الجعة لنتناول بضع علب نصف لتر معاً. كما هو الحال مع العديد من الناس جيدي التربية، جيدي التعليم، والآمنين مالياً، كان همُّ الدكتور توكاي على نفسه فقط. لكن بالرغم من كل هذا، كما ذكرت آنفاً، كان رائعاً في تبادل الأحاديث وكنت أستمتع كثيراً في التحدث إليه.

عندما اكتشف بأني كاتب صار يبوح لي ببعض التفاصيل. لربما شعر حينها، كما نجد  لدى المعالجين، أو رجال الدين، أن للكًتّاب حقاً أصيلاً (أو مسؤولية ما) في الاستماع لاعترافات الآخرين. تعرضت لنفس التجربة مع العديد من الأشخاص الآخرين. بغض النظر عن ذلك، كنت أستمتع كثيراً بالاستماع، ولم أفقد اهتمامي أبداً فيما كان يقوله لي. كان منفتحاً وصادقاً ويعكس ما بداخله. ولم يكن من النوع الذي يخاف من إظهار ضعفه أمام الآخرين – وهي ميزة غير معتادة.

هذا ما أخبرني به. "كنت في علاقات مع العديد من النساء اللاتي كن أجمل منها، جسم أجمل، طعم ألذ، وأكثر ذكاءً. لكن كل هذه المقارنات لا معنىً لها. لأنها شخص مميز بالنسبة لي. "حضورها كامل،" أعتقد بالإمكان نعتها بهذا الوصف. كل مميزاتها كانت تعود إلى أمر وحيد. بوسعك تأمل كل ميزة وقياسها وتحليلها، لتحكم بأنها خصلة جيدة أو سيئة مقارنة بشخص آخر. كان ما في عمقها يجذبني بقوة. مثل مغناطيس قوي. يتجاوز حدود المنطق."

كنا نشرب أقداحاً كبيرة من كوكتيل بلاك أند تان (Black and Tank) بينما نمضغ بطاطس مقلية ومخلل.

"وأنا أرى محبوبي الآن / وأودعه / أعرف كم صار قلبي ضحلاً جداً على كِبر / كما لو أني لم أعرف الحب من قبل،" ترنم توكاي.

"قصيدة لغانتشوناغون أستادا(Gonchunagon Atsutad)،" قلت. ولا أدري لم خطرت ببالي.

"في الكلية،" قال، "علمونا أن كلمة "أرى" في القصيدة تعني ملتقى الأحبة، مشتملاً على العلاقة الجسدية. في ذلك الوقت لم تكن لتعني لي الكثير، في هذا السن، اختبرت أخيراً إحساس الشاعر. الشعور العميق بالفقد بعدما لقاءك المرأة التي تحبها، والتي عاشرتها، ثم أن تقول لها وداعاً.

يبدو الأمر كما لو أنك تختنق. لم تتبدل المشاعر على الإطلاق منذ آلالاف السنين. لم أشعر أبداً بهذا الشعور حتى هذه اللحظة، ويجعلني هذا الشعور أدرك بمدى النقص الذي أنا عليه، كشخص. تأخرت في إدراك هذا، على كل حال."

مع أمر كهذا لا يوجد شيء أبكر من اللازم أو أأخر، أخبرته. فهمك للأمور لربما جاء متأخراً في هذه الحياة، لكن ذلك أفضل من عدم إدراكه على الإطلاق.

"لكن ربما كان من الأفضل لو أني جربت هذا الأمر عندما كنت أصغر سناً،" قال توكاي. "حينها ربما أكون نجحت في تكوين أجسام مضادة للحب."

ما ظننت أن الأشياء كانت بتلك البساطة. اعرف بضع أشخاص، أبعد ما يكونون عن تكوين أجسام مضادة للحب، يحملون أمراضاً فتاكاً كامنة. لكني لم أرد الحديث عن هذا الأمر. كان من الممكن أن يأخذ الحديث وقتاً كثيراً للانتهاء منه.

"لقد واعدتها مدة سنة ونصف حتى الآن،" قال. "يسافر زوجها للعمل مراراً خارج البلاد، وعندما يكون بعيداً نلتقي، نتناول العشاء سوية، تأتي إلى منزلي، وننام سوية. بدأت علاقتها معي عندما اكتشفت أن زوجها على علاقة ما بأحد غيرها. اعتذر زوجها، وترك المرأة الأخرى، ووعدها ألا يفعلها مرة أخرى. لكن هذا لم يُرضها، فصارت تنام معي لتجدد اتزانها العاطفي. الاتزان كلمة مبالغ فيها للاستخدام هنا، كان لديها حاجة إلى ضبط ذهني. يحدث هذا كثيراً."

لم أكن متاكداً لو أن هذا الأمر يحدث كثيراً أم لا. لكني سكت وسمعته.

"استمتعنا كثيراً. أحاديث مبهجة، أسرار حميمة لا يعرفها أحد سوانا، على مهل، جنس بإحساس مرهف. أظن بأننا تشاركنا أوقاتاً جميلة سوية. ضحكت كثيراً. كانت ذات ضحكة مُعدية. ومع تطور علاقتنا، شعرت بحب عميق تجاهها، ولم أتمكن من تركها. ومؤخراً بت أتساءل: من أنا في هذا العالم؟"

خُيل إلي أنني لم أسمع (أو ربما لم أسمع جيداً) تلك الكلمات الأخيرة، لذا سألته أن يكرر ما قال.

"من أنا في هذا العالم؟ أتساءل كثيراً بشأن هذا الأمر،" أعاد قائلاً.

"هذا سؤال صعب،" قلت.

"فعلا صعب. سؤال صعب جداً،" قال توكاي. بعد أن هز رأسه عدة مرات، كما لو كان يؤكد الأمر. يبدو وكأنه فاتته نبرة السخرية في كلماتي.

"من أنا؟" استمر في تكرار السؤال. "حتى هذه اللحظة عملت كجراح تجميلي ولم يكن عندي أدنى شك بهذا الشأن. تخرجت في قسم الجراحة التجميلية في كلية الطب، عملت أولا مع أبي كمساعد له، ثم توليت زمام الامور في العيادة عندما خف بصره وتقاعد. ربما من غير المناسب أن أقول هذا، لكني جراح ذو مهارات بارعة.

عالم جراحة التجميل يمكن أن يكون ردئ السمعة، وهنالك عيادات تعلن إعلانات مبهرجة لكن خدماتهم عادية. كنت دائما على دراية بعملي، ولم أقع في مشاكل مع زبائني. أنا فخور بهذا، كمحترف. وأنا سعيد بحياتي الخاصة، أيضا. لدي أصدقاء كثر، ولا أزال أتمتع بصحة جيدة حتى الآن.

أنا أستمتع بالحياة. لكني هذه الأيام أتساءل، من أنا في هذا العالم؟ وأنا جاد حقاً في ذلك. لو أخذت عني مهنتي كجراح تجميلي، والبيئة السعيدة التي أعيش فيها، ورميتني في العالم، دون تفسير، ونزعت كل شيء عني – كيف سيكون العالم الذي أنا فيه؟"

نظر توكاي في عيني مباشرة، كما لو كان يبحث عن رد.

"لماذا بدأت فجأة تفكر بهذه الطريقة؟" سألته.

"أظن أن ذلك بسبب كتاب قرأته قبل فترة عن معسكرات الاعتقال النازية. كان هنالك قصة عن طبيب باطني أرسل إلى معسكر أوشفيتز خلال الحرب. كان يهوديا وعيادته كانت في برلين، وفي يوم واحد قُبض عليه وعلى كامل أسرته فجأة ونقلوا إلى أوشفيتز. حتى ذلك الحين، كان محبوباً من قبل عائلته، محترماً من قبل من هم حوله، محل ثقة مرضاه. كان يعيش حياة متكاملة في منزل أنيق. كان يربي عدة كلاب، وفي نهايات الأسبوع كان يعزف التشيللو في قاعة هواة موسيقية مع مجموعة من الأصدقاء – غالباً يعزفون موسيقى شوبارت ومندلسون. كانت حياته هانئة وكاملة. لكن حينها، في طرفة عين، طاح في جحيم حي.

لم يعد البرليني الموسر، والطبيب المحترم – فجأة تحول إلى شيء بالكاد يُعتبر بشراً. فصلوه عن أسرته وعاملوه بطريقة لا تفرق عن معاملة ككلب ضال، بالكاد يحصل على ما يسد رمقه. قائد المعسكر علم بأنه كان طبيباً معروفاً وأبقاه بعيداً عن غرف الإعدام بالغاز حتى حين، وقد قرر أنه قد يكون مفيداً بطريقة ما، لكنه لم يملك أدنى فكرة عما في جعبة الغد. كان في أي لحظة، حسب هوى الحراس، من الممكن أن يضرب حتى الموت بهراوة. في هذه الأثناء فإن أسرته غالباً قتلت بالفعل.

توقف توكاي للحظة.

"صدمني، كل هذا عندما قرأته. لو أن الزمان والمكان كان مختلفاً، لربما كنت أعاني جيداً من نفس المصير السيء. لو لسبب ما -لا أدري لماذا – كنت فجأة مسحوباً بعيداً عن حياتي الحالية، جُردتُ من كل حقوقي، وتقلصت إلى العيش كمجرد رقم، أي شيء سأكون في هذه الحياة؟

أغلقت الكتاب وفكرت بهذا الشأن. من غير مهاراتي في الجراحة التجميلية، والثقة التي فزت بها من قبل الآخرين، ليس لدي أي ميزات، ولا مواهب أخرى. أنا مجرد رجل عمره اثنان وخمسون سنة. أنا صحيح البدن، لكني لا أملك الجَلَد الذي كنت عليه عندما كنت أصغر سناً. لم يعد بوسعي القدرة على تحمل العمل الجسدي الصعب لوقت طويل. الأشياء التي أنا جيد فيها هي اختيار النبيذ الأحمر المناسب، في كثير من الأحيان في بعض مطاعم السوشي وغيرها التي أعتبر فيها زبوناً مُقدراً، اختيار اكسسورات أنيقة كهدايا للنساء، عزف البيانو قليلاً (بوسعي قراءة النوتات الموسيقية من النظرة الأولى). لكن هذا كل شيء. لو أنني رُميت في مكان مثل أوشفيتز، أي من هذا لا ينفع."

أتفق معه. في معسكر اعتقال، أي قيمة للقدرة على اختيار النبيذ المناسب أو عزف بيانو من هاوٍ، ومهارات تبادل أحاديث مبهجة، كلها تبدو أشياء لا قيمة لها.

"هل فكرت يوماً بهذه الطريقة، سيد تانيمورا؟ ماذا يمكن أن تفعل لو كانت قدرتك على الكتابة قد سلبت منك؟"

شرحت موقفي له. نقطتي الأولى كانت كوني شخصاً بسيطاً بلا ميزات، أمارس العيش كما تتجرد أمامي. بالصدفة غدوت كاتباً، لسعد حظي، صرت قادراً على العيش من عوائد الكتابة. لذا لم أحتج لخوض سيناريوهات دراماتيكية مثل أنني سأرمى في معسكر أوشفيتز، أخبرته، أدرك أنني مجرد بشر بلا صفات مميزة أو مهارات.

حرن توكاي كثيراً عند هذا. بدا وكأنها المرة الأولى التي يسمع فيها برأي أو نظرة موجودة في الحياة.

"فهمتك،" قال. "هذا يجعل الحياة أسهل ربما."

أشرت إليه، بتردد، أن تبدأ حياتك صغيراً بلا أي شيء قد لا يكون، بعد هذا كله، شيئاُ سهلاً.

"أنت مُحق،" قال توكاي. "أنت مُحق تماماً. بدء الحياة بدون أي إمكانيات يجدر به أن يكون صعباً. بهذا المعنى، أنا أفضل من الأغلبية. مع ذلك، تصل إلى عمر معين، وتكون قد صنعت أسلوب حياتك ومكانتك الاجتماعية، ثم بعد ذلك بدأت تفكر بشكوك خطيرة بشأن قيمتك كإنسان، والذي قد يكون مرهقاً جداً، بطريقة ما. الحياة التي عشتها حتى الآن بدت عديمة الغاية، هدر. لو كنت أصغر سناً سيكون بوسعي التغيير، وسيكون عندي أمل. لكن في حالتي فإن الماضي يجرني للأسفل. ليس سهلاً إطلاقاً أن أبدأ من جديد."

"وصرت تفكر جدياً بهذه الأشياء بعد قراءة الكتاب عن معسكرات الاعتقال النازية؟" سألته.

"نعم. لقد صعقني الكتاب. فوق كل هذا، كانت غير واضح أي مستقبل متوقع لنا أنا وهذه المرأة، وهذا الوضع جعلني أعاني من حالة متوسطة من اكتئاب منتصف العمر. من أنا في هذا العالم؟ صرت اسأل نفسي هذا السؤال بإصرار. ولا يهم كم سألتها، لا يمكنني إيجاد إجابة. إنني أدور في دوائر فحسب. الأشياء التي كنت أستمتع بها أجدها مملة. لا أشعر بالرغبة في التمرن، أو شراء الثياب. مشكلة كبرى أن أجلس إلى البيانو بعد الآن. لا أشعر حتى برغبة في الأكل كثيراً. أنا أجلس هنا وأفكر بها فقط. حتى وأنا مع عميل في العيادة، يمتلئ ذهني بها. أخشى حتى أن أتلفظ باسمها."

"كم مرة تراها غالباً؟"

"الأمر يختلف دائما، ويعتمد على جدول زوجها. هذا أحد الأشياء الصعبة بالنسبة لي. عندما يكون بعيداً في رحلة عمل، بوسعنا أن نرى بعضنا كثيراً. يعتني والداها بالطفلة، أو أنها ستستعين بخدمات جليسة أطفال. لكن عندما يكون زوجها في اليابان، تمر أسابيع دون أن نرى بعضنا البعض. هذه الأوقات سيئة. إنه أمر مبتذل، أدري، لكنني عندما أتذكر أنني قد لا أراها مرة أخرى، أشعر بأنني أنشطر إلى نصفين."

استمعت إليه دونما تعليق. اختياراته للكلمات، مع أنها سخيفة، لكنها لم تشعرني أنها مبتذلة. في الواقع، كانت كلماته تبدو حقيقية.

جر نفساً طويلاً، بطيئاً، وزفر. "كان لدي عادة عدة صديقات. ربما تكون مندهشاً من سماع هذا، لكن في بعض الأحيان يكون لدي كثيراً كأربع أو خمس صديقات في الوقت الواحد. عندما لا أتمكن من رؤية إحداهن، أقابل الأخرى، والذي يجعل الأمور سهلة جداً. لكن بمجرد أن أجد نفسي منجذباً لإمراة ما، فالمرأة الأخرى لن يكون للمرأة الأخرى أي شيء لتفعله معي. عندما أكون مع أحد ما، أرى وجهها فقط. لا يسعني التخلص من ذلك. هذه حال خطيرة."

حال خطيرة، تأملت. ثم تصورت توكاي يتصل بسارة إسعاف. "آلو؟ نحتاج لإسعاف هنا حالاً. هذه حالة خطيرة حقاً. مشاكل في التنفس، أشعر كما لو أني أتمزع إلى أجزاء ..."

"مشكلة واحدة كبرى كانت أنني كلما عرفتها أكثر، كلما أحببتها أكثر. خرجنا سوية لعام ونصف، لكني الآن مسلوب اللب أكثر مما كنت عليه في البداية. أشعر كما لو أن قلوبنا ارتبطا معاً.

حينما تشعر هي بشيء ما مثلاً، يردف قلبي شعورها ذاك. مثل قاربين مربوطين بحبل. حتى لو أردت أن تقطع الحبل، ليس هناك سكين حادة بما يكفي للقيام بذلك. لم أختبر هذا الشعور من قبل أبداً. وهذا يرعبني. لو أصبحت مشاعري أكثر قوة، ما الذي بحق العالم سيحصل لي؟"

"فهمتك،" قلت. بدا توكاي آملاً في رد حقيقي أكثر.

"سيد. تانيمورا، ماذا يجدر بي أن أفعل؟"

"ما عندي أية اقتراحات عملية،" قلت له، " لكن مما تخبرني، يبدو ما تشعر به طبيعياً ومفهوماً. هذا هو الوقوع في الحب. لا يمكنك التحكم بمشاعرك، يبدو الأمر كما لو أن هناك قوة فظيعة تتلاعب بك. ما تمر به ليس أمراً غير طبيعي البتة. لقد وقعت بعمق في الحب مع امرأة، ولا تريد أن تفقدها. تريد أن تستمر في اللقاء بها. لو لم تتمكن من ذلك، ستشعر وكأن العالم على وشك الفناء. هذا طبيعي. لا شيء غريب أو غير معتاد. مجرد وضع طبيعي لحياة طبيعية."

عقد الدكتور توكاي ذراعيه وهو جالس. لم يبد عليه الاقتناع. بدا وكأنه يجد صعوبة في تقبل مبدأ "مظهر طبيعي للحياة الطبيعية."

أنهينا شرب الجعة وكنا على وشك المغادرة عندما – بدا كما لو أنه على وشك الإفضاء بسر – قال، "سيد. تانيمورا، أكثر ما يرعبني، ويجعلني مشوشاً، الغضب العارم الذي أشعر به داخلي."

"غضب؟" سألته، وأنا متفاجئ. بدا الغضب أكثر شعور غير متوقع قد يمر به شخص مثل توكاي. "غضب أم ماذا؟"

هز توكاي رأسه. "لا أدري، بالتأكيد ليس غضباً عليها. لكن عندما لم أتمكن من رؤيتها لفترة، وعندما لا أتمكن من رؤيتها، أشعر بغضب يفيض في داخلي. لا أستطيع فهمه، مع ذلك، لا افهم ما سببه. لكنه أشد غضب شعرت به من قبل. أشعر كما لو أنني أريد رمي كل شيء في الشقة عبر النافذة. الكراسي، التلفاز، الكتب، الصحون، الصور ذات الإطار، سم ما شئت. لا يهمني لو أنها ضربت أحد المشاة في الأسفل على رأسه وقتلته. أمر سخيف، لكنه شعوري في هذه اللحظة. بوسعي التحكم بهذا الغضب، حالياً. لست في الحقيقة على وشك القيام بكل هذا. لكنني قد ألحق الضرر بأحد ما. هذا ما يخيفني. لو كان لهذا أن يحدث، بالأحرى سأؤذي نفسي عوضا عن الآخرين."

لا أتذكر ماذا قلت له. بلا شك بعض تفوهت ببعض كلمات العزاء المبهمة. والسبب أنني في ذلك الوقت لم أكن مدركاً لأي شكل من أشكال "الغضب" التي تحدث عنها أو أشار إليها. لم أقل شيئاً يساعد. لكن لو قلت شيئاً مفيداً، قدره لم يكن ليتزحزح على الأرجح عن مصيره. آمنت بذلك.

دفعنا الفاتورة، تركنا المشرب، وكل منا ذهب للبيت، استقل سيارة أجرة، حقيبة المضرب بيد، واليد الأخرى يلوح بها تجاهي وهو في الداخل. كانت هذه آخر مرة أرى فيها الدكتور توكاي. كان هذا بنهاية سبتمبر، في ذلك الحين لم تزل سخونة الصيف تراوح المكان.

بعد هذا اليوم، لم يعد توكاي يأتي للنادي. زرت النادي في نهاية الأسبوع، آملاً أن ألتقي به، لكنه لم يكن في المكان أبداً. لا أحد سمع عنه أي شيء. لكن هذا يحدث أحيانا في النادي. ينتظم الناس في الحضور وقد يتوقفون فجأة. النادي ليس مكان عمل. الناس أحرار في المجئ وفي الذهاب كما يرغبون. لذلك لم يقلقني بقوة إلى تلك الدرجة. مضى شهران على ذلك.

في عصر يوم جمعة بنهاية نوفمبر، اتصل بي سكرتير توكاي. كان اسمه غوتو. كان صوته خفيضا وناعماً وذكرني بالمغني باري وايت وموسيقاه. موسيقى من النوع الذي يُبث في برامج إذاعات إف إم آخر الليل.

"من المؤلم بالنسبة لي أن أخبرك بالأمر عبر الهاتف،" قال لي، "لكن الدكتور توكاي مات يوم الخميس من الأسبوع الماضي. أجرت عائلته مراسم الدفن الخاصة يوم الاثنين من هذا الأسبوع."

"مات؟" قلت له، مصعوقاً. "كان على ما يرام عندما رأيته قبل شهرين. مالذي جرى؟"

صمت غوتو. أخيراً، قال،" لا يمكنني حقيقة أن أشرح الأمر عبر الهاتف. حقيقة عندما كان لا يزال حياً، استأمنني الدكتور توكاي على شيء أراد أن يعطيك إياه. أنا آسف لإزعاجك، لكن هل يمكننا اللقاء لوقت قصير؟ سأخبرك عن ذلك حينها. بوسعي اللقاء بك في أي وقت، أي مكان."

ماذا عن اليوم، بعد هذا الاتصال مباشرة؟ سألته. هذا مناسب، رد علي غوتو. سميت له كافيتيريا في شارع خلفي بأحد الشوارع المتفرعة من جادة آيواما. دعنا نلتقي عند السادسة، أخبرته. بوسعنا أن نتحدث بهدوء هناك, لم يعرف غوتو المكان، لكنه قال أن بوسعه العثور عليه.

عند وصولي إلى الكافتيريا الساعة السادسة إلا خمس دقائق، كان غوتو قد أخذ مقعده، وعندما اقتربت منه قام على قدميه بسرعه. من صوته الخفيض على الهاتف توقعت ملاقاة رجل قوي البنية، لكنه في الواقع كان طويلاً ونحيفاً. كان، كما وصفه لي توكاي مرة، وسيما إلى حد كبير. ارتدى غوتو سترة صوفية بنية، قميصاً أبيضا مزرراً، وربطة عنق فاقعة خردلية اللون.

ملابس مثالية. شعره الطويل كان مهذباً، شعر ناصيته ينسدل بجمال على جبهته. يبدو كأنه في منتصف الثلاثينات من عمره، ولولا أن توكاي أخبرني بأنه شاذ، لكنته اعتبرته شاباً أصيلاً، مهندم اللبس. (أقول "شاباً" لأنه لا يزال يظهر عليه مظهر الفتوة.) يبدو أن لديه لحية كثيفة. كان يتناول قدح اسبرسو. تبادلنا التحية السريعة، وطلبت قدحاً مثل الذي يتناوله. "لقد رحل فجأة، أليس كذلك؟" سألته.

ضيّق الرجل الفتي عينيه، كما لو كان يواجه ضوءً مبهراً. "نعم، موته كان مفاجئاً جداً. على حين غرة. لكنه أيضا استغرق وقتاً طويلاً، وكانت وسيلة مؤلمة للموت."

لم أقل أي شيء، بانتظار أن يشرح لي. لكنه بدا غير راغب في منحي أي تفاصيل عن موت الطبيب حتى يأتي النادل بمشروبي على الأقل.

"كان الدكتور توكاي محترماً جداً بالنسبة لي،" قال الرجل الشاب، كما لو كان يريد تغيير الموضوع. "كان بحق شخصاً رائعاً، كطبيب، وكإنسان. علمني مختلف الأشياء، وكان دائما صبوراً ولطيفا. عملت في العيادة لحوالي عشر سنوات، ولو أنني لم أقابله، لما صرت الشخص الذي أنا عليه الآن. كان مستقيماً في تعامله، مرتباً. متحمساً على الدوام، دونما غرور. عامل الناس بعدالة واهتم بالجميع. كلهم أحبوه، لم أسمعه، ولا مرة واحدة، يذكر أحد ما بسوء."

بالتفكير فيما قاله، أنا أيضا لم أسمعه يتحدث عن أحدٍ بسوء. "دكتور توكاي كان يتكلم عنك يتقدير كبير، أيضا" قلت له. "قال أنه بدونك سيكون من الصعب عليه إدارة العيادة، وأن حياته الشخصية ستكون فوضوية."

باهتة، وحزينة كانت الابتسامة التي برزت في شفتي غوتو. "لست ممتازاً لهذه الدرجة. كنت أحب أن أعمل وراء الكواليس، بكل ما وسعني من جهد، لمساعدته. واستمتعت بذلك."

أحضرت النادلة لي قدح الاسبرسو، ولم يستكمل الحديث عن موت الدكتور حتى غادرتنا.

"كان أول ما لاحظته على الدكتور توكاي أنه توقف عن تناول الغداء. كان قبل ذلك دوما حريصا على تناول شيء ما، يومياً، حتى لو شيئاً بسيطاً. كان حريصا على أكل شيء مهما كان مشغولاً بالعمل.  لكنه في لحظة معنية توقف عن أكل الغداء بالكلية. إذا سألته "ألم تكن تتناول شيئاً؟"، فسيقول لك، "لا تقلق، لست جائعاً." كان هذا في أول أكتوبر. هذا التغيير أقلقني. لم يكن من الأشخاص الميالين لتغيير عاداتهم اليومية من حين لآخر. كان يثمن الانتظام فوق أي شيء. توقف عن الذهاب للنادي، قبل أن أدرك هذا أيضا. كان يذهب ثلاث مرات في الأسبوع للسباحة، ولعب الاسكواش، وتمارين القوة، لكنه يبدو فقط الاهتمام فجأة.

ثم بدأ يفقد الاهتمام في مظهره. كان دوماً أنيقاً، رجلاً عصرياً، لكنه أصبح يلبس بابتذال. بدأ يرتدي نفس الملابس يوماً بعد يوم. كان شارد الذهن وزاد في صمته. في وقت لاحق، صار من النادر أن يتكلم، ونصف وقته معنا مضى في كونه هائم التفكير. عندما كنت أكلمه كان يبدو أنه لا يسمعني. وتوقف عن رؤية النساء في وقت فراغه."

"كنت تحتفظ بجدوله، لذا فإن أفترض أنك لاحظت التغيرات بوضوح؟"

"هذا صحيح، كان لقاءه بصديقاته السيدات حدثاً يومياً مهماً. مصدراً لطاقته. الانقطاع عنهن فجأة لم يكن طبيعياً. وبالنسبة لشخص في  الثانية والخمسون لم يكن مستنكراً ممارسته لكل هذا. أنا متأكد أنك تعرف، سيد تانيمورا، عن مدى النشاط الذي كان عليه الكتور توكاي عندما يأتي الأمر للتحدث عن المرأة في حياته؟"

"لم يكن ليبقي الأمر سراً، ولم يتبجح بشأنه كذلك، لكنه كان منفتحاً جداً بهذا الشأن، هذا ما أعنيه."

هز غوتو رأسه. "لقد أخبرني كل الأشياء المختلفة، أيضا. من أجل هذا كان تغير كل شيء صادماً. أبقى كل شيء لنفسه ولم يكشف لي عنه. بطبيعة الحال سألته إن سبق وأن حدث خطأ ما، أو أن هناك أشياء أقلقته، لكنه كان يهز رأسه ولا يجيب. عند هذه اللحظة كان بالكاد يكلمني. كان يظهر عليه أن يصبح أنحف وأضعف كل يوم. واضح أنه كان لا يأكل من الطعام ما يكفيه. لكني لم أكن لأتدخل في حياته الشخصية. كان شخصاُ صريحاً، لكنه بعد نقطة معينة، كان يثمن خصوصيته.

طوال كل السنوات التي قضيتها كسكرتير شخصي له، زرته في منزله مرة واحدة فقط، كان ذلك لجلب غرض مهم قد نسيه. لربما كانت المرأة التي يراها هي الوحيدة المسموح لها زيارته في بيته.

لذا كان يمكنني فقط التخمين والقلق بشأنه من بعيد." أطلق غوتو تنهيدة صغيرة، كما لو كان أذعن لحقيقة أن هؤلاء النسوة اللاتي كان توكاي على علاقة حميمة معهن كان يحق لهن الدخول إلى أماكن لم يسمح له بدخولها.

"بات أنحف وأضعف يوماً بعد يوم؟" سألته.

"صحيح. غارت عيناه، بهت وجهه فصار كالورقة. لم يتمكن من المشي بثبات ولم يعد قادراً على استخدام مبضع الجراحة بعد الآن. لم يكن هناك أي مجال لقيامه بعمليات على مرضاه. لحسن الحظ، كان لديه مساعد جراحة ممتاز والذي كان يحل محله في إجراء العمليات. لكن الأمور لا يمكن أن تجري هكذا لأجل غير مسمى. أجريت الاتصالات، وألغيت كل المواعيد، وبعد ذلك باتت العيادة، مغلقة. في الأخير، توقف عن الحضور للعيادة تماماً. كان هذا في آخر أكتوبر. اتصلت به هاتفياً، لكن أحداً لم يرد. لم أتمكن من الوصول إليه على مدار يومين كاملين. كان عندي مفتاح شقته، وفي صباح اليوم الثالث، أخذت المفتاح ودخلت إلى الداخل. أعلم أنه لم يكن عليَّ فعل هذا، لكنني كنت محموماً وقلقاً.

"عندما فتحت الباب فوجئت برائحة شنيعة. كانت الأرض ملئى ببقايا كل شيء – ملابس مرمية في كل المكان، سترات، ربطات عنق، ملابس داخلية. يبدو ألا أحد نظف المكان لأشهر. كانت النافذة مغلقة، وكان الهواء خانقاً. وجدته على السرير، صامتاً مستلقياً هناك فحسب."

أغلق غوتو عينية وهز رأسه. كان يبدو وكأنه يسترجع المشهد.

"عندما رأيته، كنت متأكداً بأنه ميت. كان قلبي على وشك التوقف. لكنه لم يكن ميتاً. حرك وجهه الهزيل، الشاحب باتجاهي، وفتح عينيه، ونظر باتجاهي. رمش بعينية عدة مرات. كان يتنفس، لكن بصعوبة. كان مستلقياً هناك، بلا حراك، يغطيه اللحاف إلى عنقه. كلمته لكن دون أي تجاوب. شفتاه اليابستان كانتا مغلقتان بشدة، كما لو كانتا مخيطتان.

لم يكن قد حلق لحيته لوقت طويل. فتحت النافذة لأدع هواءً جديداً يدخل. لم يخطر ببالي القيام بفعل فوري طارئ، ولم يبد بالنسبة لي أنه يعاني من أي ألم، لذا فلقد ذهبت ورتبت الشقة. كان المكان في حالة كارثية للغاية. جمعت الملابس المنتثرة، غسلت ما بوسعي غسله في غسالة الملابس، أخذت ما يجب أن يغسل غسيلاً جافا في حقيبة لأخذها إلى المحل. صرفت الماء الآسن في الحمام ونظفت علامات الوسخ حول حوض الاستحمام. كان الدكتور توكاي دوماً نظيفاً،، ووجدت أن هذه الفوضى عصية على الفهم. غطى الأثاث طبقة غبار أبيض، ويبدو أنه توقف عن استقبال المرأة التي كانت تنظف المكان.

وفي منتهى الغرابة، لم يكن هناك أية أطباق متسخة متجمعة في مغسلة المطبخ. كانت وحدها نظيفة جداً.يبدو أنه لم يستخدم المطبخ لوقت طويل. كان هناك بعض قناني الماء المعدني فارغة حول المكان، لكن لا أثر يدل على أنه أكل أي شيء هنا. فتحت الثلاجة وكانت هناك رائحة نتانة فظيعة عجيبة. الطعام المتروك في الداخل كان قد فسد كله. التوفو، الخضار، الفواكه، الحليب، السندويكات، اللحم، وما شابه ذلك. جمعتها كلها في كيس مهملات كبير وأخذتها إلى مكان النفايات خارج مبنى الشقق."

رفع غوتو قدح الاسبرسو الفارغ وتمعن فيه من عدة زوايا. ثم نظر إلى الأعلى.

"استغرق الأمر أكثر من ثلاث ساعات لاستعادة الشقة إلى الحالة التي كان يجب أن تكون عليها. تركت النوافذ مفتحة طوال الوقت حتى تختفي الرائحة عندما أكون تقريباً قد انتهيت. لكن الدكتور توكاي لم يهمس ببنت شفة ولا بأختها طوال هذا الوقت. كان نظره يتابعني فحسب بعينيه وأنا أحوم في الغرفة. كان شاحباً إلى درجة أن عينيه ظهرتا أكبر وألمع من المعتاد. لكني لم ألتقط أي مشاعر فيهما. كان يشاهدني بعينيه لكنه لا يرى أي شيء حقيقة. لست متأكداً كيف يمكن شرح الأمر. كانت عيناه تراقب حركة بعض الأجسام، مثل عدسة كاميراً آلية تركز على الهدف المتحرك. بدا وكأنه لا يهتم أنه أنا، أو لا يهتم لملاحظة ماذا كنت أفعل. كانت عيناه حزينتين. لن أنساهما ما حييت.

"استخدمت مقصاً كهربائياً، حلقت له لحيته، ومسحت وجهه بمنشفة مبللة. لم يقاوم على الإطلاق. تركني أفعل ما أريد. بعد هذا اتصلت بطبيبه الشخصي. وعندما شرحت له الوضع، حضر فوراً. كشف عليه وقام ببعض الاختبارات البسيطة. ولم يتكلم دكتور توكاي بكلمة. كان يحملق في وجوهنا بنظرات جامدة، عيون خالية طوال الوقت."

"ربما لا تكون هذه هي الطريقة الصحيحة لإيضاح الأمر، لكن لم يعد لنا أن نعتبره شخصاً حياً. كان يبدو كما لو مدفون حياً، ويجب أن يعود كمومياءً لأنه ما تناول أي طعام. لكن، وبطبيعة الحال، لم يكن بوسعه أن يترك ارتباطه بالحياة، ولم يكن حتى متمكنا من التحول إلى مومياء، لذلك فقد زحف إلى السطح وبقي هناك. هذا كل ما كان عليه الوضع. أعلم أنها فكرة فظيعة لشرح الأمر، لكن هذا بالفعل ما شعرت به. كان قد فقد روحه، ولم يكن متاحاً له أن يستعيدها. مع هذا فإن أعضاء جسمه، كانت صامدة، استمرت بالعمل باستقلالية. هذا ما استشعرته."

وهز الفتى الشاب رأسه عدة مرات.

"أنا متأسف لأنني استغرقت وقتاً طويلاً لأخبرك بهذا. سأنهي حديثي حالاً. كان الدكتور توكاي يعاني بما يشبه الأنراكسيا (مرض يجعل المصابين به يتوقفون عن الأكل خوفاً من زيادة الوزن فيتحولون إلى هياكل عظمية). كان بالكاد يتناول الطعام، واستمر على قيد الحياة لأنه كان يشرب الماء. القول الحازم، أنه لم يعانٍ من الأنراكسيا. كما أنني متأكد أنك تعلم، أن النساء الصغيرات دائما هن تقريبا من يصبن بالأنراكسيا. يتوقفن عن تناول السعرات الحرارية حتى يبدين بمظهر جيد ويفقدن أوزانهن، وويصبح موضوع فقدان الوزن بحد ذاته هدفاً وينتهي بهن المطاف لتجويع أنفسهن. في حالات متطرفة هذه النسوة يأملن في تخفيض أوزانهن إلى لا شيء. لذلك فإنه من المستبعد أن يصاب رجل في منتصف عمره بالأنراكسيا، في حالة دكتور توكاي هذا ما حصل تماماً. بطبيعة الحال هذا لا يعني الرغبة في الظهور بمظهر جذاب. كان في الواقع غير قادر على ابتلاع أي طعام."

"لأنه كان مريضاُ بالحب؟ مُدنفاً؟" سألته.

"شيء من هذا القبيل،" قال غوتو. "أو كأن لديه رغبة مشابهة في تقليل نفسه إلى لا شيء. ربما أراد محو نفسه. لأن الشخص العادي سيتألم كثيراً ولن يصبر على ألم الجوع هكذا. ربما كان شعور الفرح برؤية جسده يتحول إلى لاشيء فاق الشعور بالألم. تماماً كما يحدث مع المصابة بالأنراكسيا من النساء، تجدهن يردن الإحساس كما لو أنهن يرين أجسادهن يتقلصن بعيداً."

حاولت تصور الدكتور توكاي نائماً على سريره، مهووساً بالحب إلى اللحظة التي صار فيها مومياءً ذابلة. لكن كل ما يمكنني تخيله كان الشخص الذي أعرفه، شخصاً مرحاً، صحيح البدن، أنيق الملبس يحب الطعام الجيد.

"أعطاه الطبيب حقناً مغذية وأحضر ممرضة لمراقبة حقنه الوريدية. لكن الحقن الوريدية لم تجدِ كثيراً، وبوسع المريض أن ينزعها لو أراد. ولم يكن بوسعي الجلوس إلى سريره ليلاً ونهاراً. كان بوسعي ربما إرغامه على أكل شيء ما، لكنه كان سيستفرغه بالكامل. لو عارض المرء محاولات تطبيبه ومعالجته، لا يمكن إرغامه كما يلزم. عند هذه النقطة استسلم دكتور توكاي وتخلى عن الرغبة في العيش وقرر أن يتقلص إلى لا شيء. مهما فعل الجميع، مهما أعطي من حقن تغذية، لم ينجح أي شيء في إيقاف تدهور الحالة. كل ما كان بوسعنا فعله هو الانتظار، بأذرع مطوية، ورؤية المسغبة تلتهم جسده. كانت أياماً مؤلمة، شاقة. كنت أعلم أنه يجدر بي فعل شيء ما، لكن لم يكن هنالك شيء يمكنني فعله. كانت الرحمة الوحيدة المنقذة على الأقل هي أنه لم يبد عليه أنه يعاني.

لم أره يرمش حتى، ذهبت إلى شقته يومياً، تفقدت بريده، نظفت، وجلست جوار سريره، أتحدث معه عن مختلف أنواع الأشياء. أخبار بشأن العمل، قيل وقال. لكنه لم يتفوه بكلمة. لم يظهر أي شيء يقترب من أن يكون ردة فعل. لم أكن أدري إن كان واعياً حتى. كان ينظر إلي بعيونه الواسعة وحسب، كان وجهه مثل قناع. كانت عيناه صافيتين بغرابة. كما لو كانتا تريين الجانب الآخر."

"هل حدث شيء ما بينه وبين المرأة؟" سألته. "أخبرني كم كان منغمساً في علاقته مع امرأة مُطفلة."

"هذا صحيح. من حين لآخر قبل هذا، كان قد انغمس عميقاً معها. لم تكن علاقة عابرة بعد ذلك, شيء خطير حدث بينهما، وأياً كان هذا الشيء فلقد تسبب في فقده للرغبة في العيش.

حاولت الاتصال بمنزل المرأة. جاوبني زوجها. وأخبرته أنني في حاجه للتحدث إليها بشأن موعد حجزته مع عيادتنا، لكنه قال أنها لم تعد تعيش هنا. هل من وسيلة للاتصال بها؟ سألته، فقال لي ببرود شديد، أنه لا يملك أدنى فكرة. وأنهى الاتصال."

سكت غوتو لوهلة ثم استمر بالحديث.

"دون أن أطيل عليك، استطعت الوصول إليها. كانت قد تركت زوجها وابنتها، وذهبت لتعيش مع رجل آخر."

صُعقت حينها، لم أتمكن مبدئياً من فهم ما قاله. "تقول أنها تركت كليهما، زوجها والدكتور توكاي؟" تمكنت أخيراً من أسأله.

"نعم،" قال غوتو. واكفهر وجهه. "كان لديها رفيق ثالث. لا أعرف كل التفاصيل، لكنه يبدو أنه كان أصغر منها. هذا رأيي فحسب، لكنه لم يكن الشخص الذي يمكن أن يُحب.

هربت من منزلها لتفر مع عشيقها. كان الدكتور توكاي مجرد مرحلة مفيدة لا شيء أكثر. لقد استخدمته. كانت هنالك أدله أنه أنفق كثيراً من المال عليها. لدينا محامون يعملون ويراجعون حساباته المصرفية وحسابات بطاقات الائتمان الخاصة به، وبات هذا واضحاً.

على الأغلب أنه اشترى هداياً ثمينة لها. وربما أعطاها المال. لم يكن هناك دليل قاطع يظهر كيف استخدمت هذه الأموال، وتبقى التفاصيل غير واضحة، لكن ما نعرفه كان أنه سحب كميات كثيرة من المال خلال فترة وجيزة من الزمن."

تنهدت مُثقلاً بالهم. "لابد أن هذا كان صعباً عليه." وهز الرجل الشاب رأسه. "لو أن المرأة أخبرته أنها لا تستطيع ترك زوجها وطفلتها، فيجب علي أن أقطع علاقتي بك، لكان قادراً على الصمود أمام الأمر.  أحبها أكثر من أي أحد أحبه من قبل، لذلك فمن الطبيعي أن يكون ما حدث مدمراً، لكنني أشك أنها كانت ستقوده إلى حتفه. ما دام الأمر قابلاً للفهم، أيا كانت شدة وقوعك فيه، ستكون قادراً على انتشال نفسك من جديد مرة أخرى. لكن ظهور الرجل الثالث، وإدراكه أنه جرى استخدامه، كان صدمة لا يمكنه التعافي منها."

 أنصت إليه بصمت.

"عندما مات، كان وزن الدكتور توكاي ثمانين رطلاً،" قال الرجل الشاب. "عادة كان يزن أكثر من مئة وستين رطلاً، لذا فقد كان أقل من نصف وزنه الطبيعي. برزت أضلاعه إلى الخارج مثل الصخور التي يكشف عنها الجزر حال انحسار الموج. لم تكن لترغب في النظر إليه، كان فظيعاً. جعلني أتذكر اليهود الهزيلين الناجيين من معسكرات النازيين والتي شاهدتها في فيلم وثائقي في وقت بعيد مضى."

معسكرات اعتقال. في مشهد كان قد رأى هذا. من أنا في هذا العالم؟ أنا أفكر حقاً في هذا الأمر.

استمر غوتو بالحديث. "طبياً، كان السبب المباشر لموته هو فشل في القلب. فقد قلبه القوة لضخ الدم. لكني أظن أن موته جاء بسبب أنه كان واقعاً في الحب. وإذا أردنا استخدام المصطلح القديم، كان بالتأكيد "مدنفاً". كلمتُ المرأة مرات عديدة، موضحاً مالذي يجري  طالباً مساعدتها.

جثوت فعلياً على ركبتي، متوسلاً بها أن تأتي لتراه، حتى لو لوقت قصير. عند هذه النقطة، أخبرتها، أنه سيموت. لكنها لم تأت. بطبيعة الحال، لم أظن أن مجرد رؤيتها  سيبعده عن أن يموت. كان الدكتور توكاي قد حزم أمره. وإلا لكانت لديه مشاعر أخرى عندما مات.

أو ربما عندما يراها سيربكه الأمر وحسب، ويسبب له المزيد من الألم. لا أدري على وجه الحقيقة. بصدق، لم أتمكن من فهم أي شيء. هنالك شيء واحد أعرفه، على كل حال. لم يتوقف أحد عن الأكل تماماً ومات بسبب كونه مُدنفاً. ألا تظن ذلك؟"

أتفق. لم أسمع بشيء مثل هذا. بهذا المعنى، فالدكتور توكاي كان شخصاً مختلفاً. عندما قلت هذا، غطى غوتو وجهه بيديه وبكى بصمت لفترة. لقد أحب الدكتور توكاي. كنت أود تعزيته، لكن لم يكن هنالك شيء بوسعنا فعله. بعد وقت توقف عن البكاء، أخرج منديله من جيب بنطاله، ومسح بها دموعه.

"آسف لجعلك تراني هكذا."

"البكاء حزناً على شخص ما لا يستدعي الأسف،" أخبرته. "بالذات إذا كان شخصاً تهتم لأمره، شخصاً مات."

"شكراً،" قال غوتو. "من العزاء سماع هذا."

انحنى لأسفل الطاولة والتقط مضرب السكواش وقدمه إليَّ. في الداخل كان مضرب شكواس جديداً علامته التجارية باسم الفارس الأسود. غالية الثمن.

"ترك الدكتور هذه معي. طلبها عبر البريد، لكن في الوقت الذي وصلت فيه لم يعد لديه القوة الكافية ليلعب السكواش مجدداً. سألني أن أعطيك إياها، سيد تانيمورا. قبل موته مباشرة كان واعياً بالكامل لوقت قصير وأعطاني بعض التوجيهات، أشياء كان يريدني أن أعتني بأمرها. تسليمك هذا المضرب كان أحدها. رجاءً استخدمها لو أحببت."

شكرته وأخذت المضرب. "ماذا سيكون مصير العيادة؟" سألته.

"سنغلق أبوابها في الوقت الحالي،" قال. "ربما سنغلقها نهائياً، في النهاية، أو عرضها للبيع. لا يزال هنالك أعمال إدارية لإنهاءها، سأستمر بالمساعدة لفترة، لكنني لم أقرر بشأن الخطوة التالية. أحس بالحاجة للشعور بالإنتهاء، لكنني في الوضع الراهن لست متمكناً من التفكير جيداً."

أملتُ كثيراً أن يستعدي هذا الرجل الشاب نفسه بعد الصدمة.

ونحن نلقي كلمات الوداع قال لي، "سيد تانيمورا، أعلم أن هذا عبء عليك، لكن عندي جميل أطلبه منك. أرجوك تذكر الدكتور توكاي. كان لديه قلب نقي. أعتقد بأننا ندين لأولئك الراحلين إبقاء ذكراهم حية قدر ما نستطيع. لكنها مهمة ليست سهلة كما تبدو. لا أستطيع أن أطلب من أحدهم هذا بسهولة."

"أنت محق تماماً،" أخبرته, تذكّرُ أحد ما لوقت طويل ليس سهلا كما يظن الناس. سأحاول تذكره قدر ما استطعت، أعدك. لم تكن عندي الوسيلة للتحقق كم كان مدى نقاوة قلب الدكتور توكاي، لكن الحق أنه لم يكن شخصاً عادياً، وبالتأكيد شخصاً يستحق التذكر. تصافحنا بالأيدي قائلين وداعاً.

أظن أن هذا سبب كتابتي لهذه القصة حتى لا أنسى الدكتور توكاي. بالنسبة لي، كتابة الأشياء طريقة فعالة كيلا ننسى. لقد غيرت الأسماء والأماكن قليلاً حتى لا تتسبب بمشاكل، لكن كل الأحداث حدثت بالفعل، قريباً جداً من الطريقة التي ذكرتها. سيكون من اللطيف لو أن غوتو صادف وأن رأى القصة وقرأها.

هنالك شيء واحد أتذكره جيداً عن الدكتور توكاي. لا أتذكر كيف وصلنا إلى ذلك الموضوع، لكننا كنا نتحدث عن النساء عموماً.

قال لي أن جميع النساء ولدن بعضو مستقل خاص يمكنهن من الكذب. كان هذا رأي الدكتور توكاي الشخصي. ويعتمد الأمر على المرأة، كما يقول، بشأن نوعية الأكاذيب التي ترويها، وفي أي وضيعة تقولها، وكيف تقول الكذبة. لكنهن في وقت ما من حيواتهن، نجد أن جميع النساء يقلن الأكاذيب، ويكذبن بشأن أمور هامة. وعندما يفعلن، فإن تعابير وجوههن وأصواتهن لا تتغير البتة، ذلك لأنهن لسن من يقترف الأكاذيب، إنما كان هذا العضو الجسدي المستقل الذي يحملنه والذي يتصرف على انفراد. هذا سبب -باستثناء حالات قليلة- كونهن يحافظن على وجدان صافٍ ولا يقلقن بشأن أي شيء يقلنه.

قال كل هذا بطريقة جد حاسمة، لذلك تذكرته جيداً. اتفق معه على ما قاله، مع فارق بسيط قد يكون مختلفاً. فهو وأنا قد توصلنا إلى نفس الخلاصة غير المليحة، حتى مع توصلنا إليها كل على حده.

أنا متأكد أنه، عندما بدا أنه سيواجه الموت، لم يجد أي متعة في التأكد من صحة هذه النظرية. ولا داعي للقول، أنني أشعر بأسف شديد على الدكتور توكاي. أنا أرثي لموته. يستدعي الأمر صرامة عظيمة للتوقف عن الأكل متعمداً وتجويع نفسه حد الموت. الألم الجسدي والنفسي الذي لابد وأنه عانى منه كان فوق الاحتمال. لكنني لا أجد حرجاً في الاعتراف أنني أحسده على الطريقة التي أحب بها امرأة واحدة – إذا وضعنا جانباً اي نوع من النساء كانت – أحبها بعمق جعله يريد أن يقلص نفسه إلى لا شيء. لو أراد، لتناساها واستمر في حياته كما سبق.

أن يستمر بلقاء عدة نساء لقاءات عابرة في الوقت نفسه، ويستمتع بكؤوس ميلو بون نوار، عازفاً معزوفة "على طريقتي" على البيانو الكبير في غرفة المعيشة بشقته، مستمتعاً ببعض العلاقات الصغيرة المرحة في زاوية من المدينة. لكنه شعر بالحب، وبيأس هائل، وفقدان للأمل جعله يتوقف حتى عن الأكل، خطا باتجاه عالم جديد مختلف تماماً، رأى أشياء لم يشهدها من قبل، وألقى بنفسه للتهلكة. كما يقول غوتو، كان يمحو ذاته من الوجود. لا أعلم أي الحياتين اللتين عاشهما كان الأصدق سعادة بالنسبة له. القدر والأحداث الذي لاحق الدكتور توكاي من سبتمبر إلى نوفمبر في تلك السنة كانت ملغزة عن آخرها، جعلني أنا، كما حدث لوتوغو، لا نتمكن ببساطة من استيعابها.

لا أزال ألعب السكواش، لكن بعد موت الدكتور توكاي انتقلت، كنتيجة لفقده، وغيرت النادي. في النادي الجديد ألعب مع لاعبين أدفع لهم أجراً على لعبهم معي. يكلفني مالاً، لكنه أسهل. بالكاد استخدمت مضرب الدكتور توكاي التي تركها لي. كانت خفيفة قليلاً. وعندما استشعرت كم هي خفيفة، لم أستطيع إلا أن أتذكر صورته المهزولة.

أشعر كما لو أن قلوبنا ضُمت معاً. حينما تشعر هي بشيء ما مثلاً، يردف قلبي شعورها ذاك. مثل قاربين مربوطين بحبل. حتى لو أردت أن تقطع الحبل، ليس هناك سكين حادة بما يكفي للقيام بذلك.

لاحقاً، بطبيعة الحال، كلنا اعتقدنا أنه قد ربط نفسه بالقارب الغلط. لكن من بوسعه فعلاً أن يتحقق من القول؟ أن تلك المرء على الأرجح كذبت عليه بعضوها المستقل، استخدم الدكتور توكاي -بطريقة مختلفة نوعاً ما- عضوه المستقل للوقوع في الحب. عملية فوق إرادته. مع الإدراك المتأخر بوسع المرء أن يهز رأسه بحزن وأن ينتقد تصرف شخص ما آخر بتعجرف.

لكن بدون تدخل من عضو كهذا -من النوع الذي يرفعنا لأعلى الأعالي، ثم يهوي بنا إلى الدرك الأسفل، يقحم عقولنا في فوضى، ويكشف عن أوهام جميلة، وفي أحيان يأخذ بأيدينا إلى الموت- فإن حياتنا لا بد أن تكون مختلفة وجافة. أو ببساطة أن تنتهي كسلسلة من التناقضات.

لا أملك أي طريقة لأعرف، بطبيعة الحال، ماهي أفكار الدكتور توكاي، أي فكرة عبرت بذهنه، بينما كان يتمزق على شفا موته الذي اختاره.

لكن في عمق ألمه ومعاناته، ولو لوقت قصير، نجد أن عقله صفا بما يكفي لترك تعليمات من ضمنها أن يترك لي مضرب السكواش الخاص به والذي لم يستخدمه.

لربما كان يريد أن يبعث إلىَّ برسالة ما. لربما وهو يحوم حول الموت فكر أخيراً وتحصل على إجابة لسؤاله الذي أقلقه، من أنا؟ وأراد بطريقة ما أن يخبرني. أشعر أن هذا كل ما في الأمر.

(*)

[من كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير، لابن المقفع، ص:117-118]

حاذر الغرام بالنساء:

 

اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء. ومن البلاء على المغرم بهن، أنه لا ينفك يأجم ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن. إنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده، أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن. وإنما المرتغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس، كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة، أشد تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء. ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوَّر لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية، ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفًا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه. ومن لم يحمِ نفسه، ويظلفها، ويحلئها عن الطعام، والشراب، والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته، كان أيسر ما يصيبه من وبال ذلك انقطاع تلك اللذات عنه بخمود نار شهوته، وضعف حوامل جسده، وقل من تجده إلا مخادعًا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء، وفي أمر  مروءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دينه عند الريبة والشبهة والطمع.

العودة للصفحة الرئيسية