"إن من البيان لسِحرا"
"إن من البيان لسحرا"، وقد يتجلى البيان في كلمة، ولعل كل مظاهر البيان قولا وفعلا ورسما ونحتاً وشعراً تنطلق من وصول البشر لحدود الإلهام ومن ثم حيازة القدرة الرفيعة على التعبير. إن معنى ارتباط البيان بالسحر هنا يأتي على سبيل التعجب من القدرة العالية على الإفصاح عن مكنونات النفس البشرية وما يلي ذلك من أثر على المتلقين، فما زال هذا البيان وسيظل جذوةً مشتعلة تضيء تراث الإنسانية جيلاً بعد جيل. في البدء كانت الكلمة، هذه الكلمة التي هي من حروف بها انتقل ما بعقول البشرية ونفوسهم من الرمز إلى المعنى على مدى التاريخ في شكل من أشكال التوهج الإنساني الذي لا ينضب. في أحد كتبها الأخيرة -والذي هو بعنوان السحر الكبير (Big Magic)- تبدأ إليزابيث جيلبرت بتساؤل مقتضب: ما الإبداع؟ ثم تجيب بأن الإبداع هو العلاقة بين البشر والإلهام، الإلهام الذي تكتنفه أسرار من خارج هذا العالم ربما، فنحن البشر لا ندري كيف ومتى يأتي الإلهام. الكتاب يأتي في سياق التجربة التي خاضتها وهي تحاول استكشاف أراضي الحياة الإبداعية -والكتابية تحديداً بالنسبة لها- لتعثر على أن الإبداع ليس حصراً على الفنون بل في كل الاختيارات والمهن، لأن الإنسان لا يفتأ يشعر بالحاجة للمزيد وللرغبة في الوصول لآفاق بعيدة في كل يوم وكل مكان. تتحدث إليزابيث في الكتاب عن العلاقة المربكة لدى المبدعين فيما بين الحياة الإبداعية وبين شعورهم بالخوف أثناء مقارفة العيش الإبداعي، وتصوغ إرشادات طريفة وشيقة حول معالجة آثار أي شعور مضلل (كالخوف مثلاُ) الذي ينتاب ممارس هذه العملية ويجعله يشتت مهارات التعامل مع الحالة الإبداعية وتوظيفها في مكانه الصحيح، فذاك الخوف لا يجب أن نلغيه من قواميس أيامنا بل نحتاج لوضعه في حدوده المعقولة. إن لهذا السحر الكبير الذي يصبّه الإلهام على روح الأقوال والأفعال فتتحول الممارسات حول هذا الجهد الإنساني في حد ذاته إلى مصدر للإلهام هو العنوان الصارخ في كل صفحات الكتاب، فالممارسة والإبداع والإلهام وجوه لمكون واحد فيما يبدو. تقول إيلزابيث جيلبرت الكثير في كتابها الممتع، مثل أن بعض الخوف ضروري وبعضه ضار، ومثل أن استبدال شعورك المتوقد للعثور على شغفك بإبقاء حواسك الطفولية الفضولية على قيد الحياة، بمعنى أنه يجب عليك أن تفلت من يدك الحرص على فكرة الشغف المجرد والجلوس مترقباً لوصوله أو حدوثه وأن تعض -عوضا عن ذلك- بالنواجذ على الفضول. وتقول لك ألا تظن بأن الإبداع معاناة مجردة على إطلاقها، الإبداع اتزان الوقت والجهد بين ما ترغب فعله وما يجب عليك فعله، ومثل أي لاعب في أي لعبة، يجب أن تعيش الحياة محاولاً أن تقوم بدور يرضيك كإنسان يعرف قيمته في هذا الكون الفسيح. تعثرت بهذا الكتاب الرهيب وتشوقت أن أشاركه الجميع، ولأن قواي تضعف أحياناً عن إدراك كل ما أطمح إليه، فلقد اخترت بعض فصول من الكتاب وترجمتها لعلها تكون شرارة إطلاق الحياة الإبداعية في قارئ عابر ما، أو دعوة لقراءة الكتاب كله والانتقال به وعنه بنفس إنسانية توّاقة للمزيد من الخير والنفع لنفسها وللآخرين بأي وسيلة تمكن من هذه الغاية. وكما يحصل لي مرات متعددة! أحاول ترجمة شيء وأجد قبلي من سبقني، فالكتاب برمته مترجم للعربية عبر أسامة إسبر في كتاب بعنوان السحر الكبير عبر دار الجمل، الجميل الذي يمر والأفق يتحرك منذ 1983م. وآسى قليلاً وكثيراً لكني أؤب إلى فكرة حرصي على ترجمتي شيء وعثوري على ترجمته يعني أنني أحوز على قدر جيد من الذوق وفي هذا عزاء كافٍ، هيا إلى الفصول المترجمة. الفصل الأول: الوجود الإبداعي عندما أتحدث عن "الحياة الإبداعية" هاهنا، افهموا رجاءً أنني لست بالضرورة متحدثة عن تحصيل تلكم الحياة المكرسة احترافياً وحصرياً للفنون. لست أقول أنك يجب أن تعيش في قمة جبل باليونان لتصبح شاعراً، أو أنك يجب أن تحاضر في قاعة كارنيجي ميلون، أو أن تفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. (مع أنك إذا أردت ذلك كله، بكل ما يمكنك من رغبة، أشجعك على أن تحصل عليه. أحب رؤية الناس تستميت في سبيل ما تصبو إليه.) لكن لا، عندما أتحدث عن "الحياة الإبداعية،" فأنا أتكلم عن أمر أكثر سعة. أتحدث عن الحياة التي يدفعها الفضول بقوة أكثر مما يدفعها الخوف. إن أحد ألطف الأمثلة للحياة الإبداعية، مثلاً، جائتني عبر صديقتي سوزان، والتي عادت لتمارس التزلج عندما بلغت الأربعين عاماً من عمرها. لقد كانت قصتها على وجه التحديد كما يلي، في البداية كانت تعرف كيفية التزلج جيداً من قبل. لقد خاضت منافسات التزلج كطفلة ولطالما أحبت الأمر، لكنها تركت الرياضة يافعةً عندما بات جلياً بالنسبة لها أنها لا تملك الموهبة الكافية لتصبح بطلة دون مزيد من التضحيات. (آه، مرحلة اليفاعة الجميلة-حين تصم أذاننا عن الموهبة بشكل صارم، وتتموضع المسؤولية كاملة تجاه كل أحلام أفراد المجتمع الإبداعية على أكتاف بضع أرواح مختارة، في خضم وجود خال من الإلهام! أي نظام هذا... والأمثلة كثيرة) ولربع قرن إضافي من عمرها منذ أن بلغت سن الرشد، لم تتزلج صديقتي سوزان. لماذا كان عليها أن تهتم، إذا لم تكن مهارتها هي الأفضل بين الجميع؟ ثم صار عمرها أربعين عاماً. كانت كسولة. شعرت بالرتابة والثقل. قامت بقليل من البحث عن الذات، الشيء الذي يفعله المرء في أيام ميلاده المهمة. وسألت نفسها متى كانت المرة الأخيرة التي شعرت حقاً بالنور، المرح، وبالإبداع -نعم الإبداع- يسري في داخلها. وياللصدمة حينها، فلقد أدركت أنها قد مرت عقود منذ آخر مرة شعرت فيها بكل هذا. في الواقع، كانت آخر مرة شعرت بهذه المشاعر كانت عندما مرت بالمراهقة، في ما مضى من عمرها عندما كانت لا تزال تحاول أن تتعلم التزلج. وهي الآن مرعوبة من أن تكتشف أنها أنكرت ذاتها في سبيل الحصول على ما يعتاده المرء لاستمرار الحياة من دراسة وعمل وتضحيات أتت على عمرها لوقت طويل، مع هذا فلقد كانت تشعر بالفضول لترى فيما لو كانت لا تزال تحب التزلج. وهكذا لاحقت هذا الفضول. في يوم اشترت زوجا من أحذية التزلج، واختارت مضماراً لتستعيد التجربة، وسجلت بالفعل لدى مدرب. وفوق كل هذا فلقد تجاهلت الصوت في داخلها والذي كان يخبرها أنها كانت تترف نفسها وهي مجنونة لتفعل هذا الأمر الخارج عن التعقل. لكنها مع كل ذلك داست على مشاعرها التي كانت مترعة بالوعي الذاتي والمتعلقة بأنها المرأة الوحيدة في منتصف عمرها فوق الجليد على ساحة التزلج، مع كل أولئك الصغارـ الفتيات ذوات الشعر القصير الناعم. لقد فعلتها! صارت تتزلج ثلاث مرات في الصباح من كل أسبوع، كانت سوزان تستيقظ قبل الفجر، وكان عليها في تلك الساعة المتعبة أن تتزلج قبل تبدأ في مسابقة متطلبات عملها اليومي، عادت تتزلج. وتزلجت وتزلجت وتزلجت. ونعم، لقد أحبت ذلك، كما كانت تفعل من قبل. وأحبت الأمر أكثر من ذي قبل لربما، لأنها الآن، كناضجة، باتت تملك منظوراً مختلفاً وتقدر القيمة المهمة لمتعتها الذاتية. جعلها التزلج تشعر بالحيوية والرشاقة. توقفت عن الشعور بأنها كانت مجرد إنسانة مستهلكة لا أكثر، ليس يبقى لها في نهاية اليوم إلا مجموع التزاماتها ومهامها. كانت تقوم بشيء لذاتها، كانت تقوم بشيء مع ذاتها. مرت سوزان بثورة. ثورة صغيرة، وهي تتزحلق إلى الحياة من جديد على الجليد-ثورة بعد ثورة بعد ثورة... وأنا هنا أرجو أن تنتبهوا إلى أن صديقتي لم تترك وظيفتها، لم تبع بيتها، ولم تجلب الضرر ‘لى علاقاتها بالانتقال الى تورنتو بكندا مثلا من أجل أن تدرس سبعين ساعة في الأسبوع مع مدرب متخصص في ألومبياد التزلج على الجليد. لا، وأبشركم بأنها لم تنته بفوزها بميداليات البطولة. ليس على النهايات أن تكون هكذا. في الحقيقة، فإن هذه القصة لا تنتهي أبداً، لأن سوزان لا تزال تمارس التزلج عدة صباحات في الأسبوع- فقط لمجرد أن التزلج لا يزال الطريقة الأفضل بالنسبة لها لإظهار جمالية حياتية معينة وأن تتقدم في حياتها التي لم يكن فيها التقدم متوقعاً ليكون من خلال أي طريقة أخرى حسبما رأت. كانت تلك طريقتها في أن تقضي أكبر وقت ممكن في حالة التفوق بينما لا تزال على هذه الأرض. هذا كل ما في الأمر. إن هذا هو ما أسميه الحياة الابداعية. أعني أن المسارات والنتائج للحياة الإبداعية تختلف من شخص لآخر بشكل واسع، بوسعي أن أضمن لك ما يلي: إن حياة إبداعية -أياً كان شكل الإبداع والمحاولة فيها- هي حياة مضاعفة. إنها حياة أكبر، وأسعد، حياة متوسعة وحياة مثيرة للاهتمام. إن العيش بهذه الطريقة-باستمرار وبإصرار يُظهر الجواهر المخفية في دواخلنا- إنه تعبير عن فن رفيع، لكل ذات تعيش على هذه الأرض، تعبير عنها وفيها. لأن العيش الإبداعي هو المكان الذي يتجلى فيه السحر الكبير دوماً. الفصل الثاني: رعب رعب رعب فلنتحدث عن الجسارة الآن. لو كنت قد امتلكت الشجاعة في أن تظهر الجواهر المخفية في داخلك، رائع. من المتوقع أنك تقوم بأشياء شيقة حقاً في حياتك ولن تحتاج إلى هذا الكتاب. مرحى لك. لكن لو كنت لا تملك الشجاعة، فلنحاول استضحارها بعضها من أجلك. لأن يجب أن تعلم بأن الحياة الإبداعية هي مسار للشجعان. جميعنا يعلم هذا. وجميعنا يعلم أنه عندما تموت الشجاعة، يموت الإبداع أيضا. جميعنا نعلم أن الخوف هو ساحة مهجورة معزولة تجف فيها أحلامنا تحت الشمس الحارقة. كل هذا معلومات عامة؛ لكننا في بعض الأحيان لا ندري كيف علينا أن نتعامل معها. دعني أسرد عليك بعض الأفكار الكثيرة التي يمكنها أن تجعلك خائفاً من أن تعيش حياة أكثر إبداعية، فأنت مثلا: خائفٌ من أنك لا تملك الموهبة. خائف من الرفض والنقد والتسفيه أو عدم الفهم -أسوأ من كل هذا- التجاهل. خائف من فوات سوق الإبداع ولذلك ليس هنالك ما يدعو للحاق به. خائف من أن أحدهم قام مسبقاً بالأشياء جيداً. خائف من أن الجميع قام مسبقاً بالأشياء جيداً. خائف من أن يسرق أحدهم أفكارك، لذلك فمن الأسلم الاحتفاظ بها مخبأة للأبد في الظلام. خائف من أن أنك لن تُؤخذ على محمل الجد. خائف من أن أعمالك ليست مهمة بما يكفي لتغير حياة أحد ما سياسيا أو عاطفيا أو فنياً. خائف من أن أحلامك محرجة. خائف من أنك ستنظر في أعمالك يوماً ما وتعتبرها هدراً ضخماً لجهدك ووقتك ومالك. خائف من أنك لا تملك النوع المتوخى من الانتظام. خائف من أنك لا تملك نوعية المكان المناسب للعمل أو الحرية المالية أو الوقت الفارغ الذي يمكنه معه التركيز على الاختراع أو الاستكشاف. خائف من أنك لم تحصل على التدريب أو الدرجة المطلوبة. خائف من أنك سمين جداً. (لا أدري ماذا يمكن لهذا أن يفعل بالإبداعية، بالضبط، لكن التجربة أخبرني أننا جميعاً خائفون من أن نكون سمينين جداً، لذا فدعونا نضع هذه النقطة في قائمة القلق، لقائمة أشمل). خائف من أنك ستنكشف كمخادع، أو أحمق، أو هاوٍ، أو نرجسي. خائف من أن إغضاب عائلتك بما يمكن أن تكشفه. خائف مما سيقوله زملائك ورفاقك إذا عبرت عن حقيقتك الشخصية بصوت عالٍ. خائف من إطلاق شياطينك الدفينة، وأنك حقاً لا تريد مواجهتها. خائف من أن أفضل ما قمت به هو ما قمت به بالفعل حتى الآن. خائف من أنك لن تملك أفضل عمل يمكنك البدء به. خائف من أنك أهملت إبداعيتك لوقت طويل حتى أنك الآن لا تستطيع استعادتها. خائف من أنك تقدمت بالسن كثيراً لتبدأ، خائف من أنك لا تزال صغيراً بالسن لتبدأ. خائف من أن أمراً جرى على ما يرام في حياتك مرة، ومن الطبيعي ألا تجري الأمور على هذا النحو مرة أخرى أبداً. خائف لأن لا شيء جرى أبداً في حياتك على نحو جيد فيما مضى، لذا فلم المحاولة والعناء؟ خائف من أنك رابح لمرة وحيدة. خائف من أن تكون خاسراً. اسمع، ليس لدي اليوم بأكمله هنا، لذا لن أستمر في كتابة قوائم من المخاوف. إنها قائمة بلا قاع، على أي حال، فهي حال محبطة. سألملم الموضوع برمته بهذا الطريقة: مرعب، مرعب، مرعب كل الأشياء مرعبة للغاية! لكن مال العمل؟ الفصل الثالث: الخوف ممل الخوف ممل على مر السنين، تفهمت الكيفية التي جعلتني مؤخراً أتوقف عن لعب دور لولو الدمية المثيرة للشفقة، حدث ذلك فجأة. بالتأكيد كانت هنالك عدة عوامل ساهمت في هذا التحول (عامل الأم الصارمة، عامل النضج)، لكن غالباً ما أفكر أنه كان هذا الأمر: أدركت أخيراً أن الخوف ممل. اعذروني، فلقد كانت مخاوفي أنا بالذات مملة دوما لكل أحد، واستمر الأمر حتى منتصف سنوات النضج وأصبح، على الأقل، مملاً حتى بالنسبة لي. لقد صار خوفي مملاً لدى الجميع، أظن، لذات السبب الذي جعل الشهرة مملة لجاك جيلبرت: لأن الأيام باتت متشابهة. في حوالي الخامسة عشرة من عمري، اكتشفت أن مخاوفي تفتقر للتنوع، وللعمق، للجوهر، وللبنية. لاحظت أن خوفي ما تغير قط، ما ابتهج قط، لم يمنح فرصة لمفاجأة مطوية أو نهايات غير متوقعة. خوفي كان أغنية بنغمة واحدة -بكلمة واحدة في الحقيقة- والكلمة كانت "توقفي!" خوفي كان أبداً لا يملك أدنى قدر من الأهمية أو الفصاحة ليقدمها أكثر من كلمة مثيرة للشفقة، تعاد كل مرة بصوت عالٍ بتكرار سرمدي: "توقفي، توقفي، توقفي، توقفي!" والذي كانت يعنيه خوفي دوما جعلني أختار قرارات مملة متوقعة، مثل الكتب التي تخولك أن تختار النهاية والتي كانت دوما نفسها: لا شيء. واكتشفت أيضا أن خوفي كان مملا لأنه كان مماثلاُ لمخاوف كل الآخرين. اكتشفت أن أغنية الخوف لدى الجميع كان بالضبط نفس الكلمات: "توقف، توقف، توقف، توقف!" صحيح، مقداره قد يختلف من شخص لآخر، لكن الأغنية نفسها لا تتغير، لأن كلنا نحن البشر مجهزون بنفس الحزمة من الخوف الأساسي منسوجة فينا ونحن نتكون في أرحام أمهاتنا. وهذا ليس حصراً على البشر: إذا قمت بتمرير يدك فوق طبق زجاجي فيه شرغوف يسبح، فإن الشرغوف سيجفل من ظل يدك. لا يمكن للعلجوم أن يكتب شعراً، ولا يمكنه أن يغني، لن يكون بوسعه أن يحب أو أن يغار أو أن ينتصر، وله دماغ بحجم الفاصلة، علامة الترقيم، لكن بمقدور جداً أن يخاف من المجهول. وبالطبع، حتى أنا كنت مثله. هكذا نفعل كلنا. لكن ليس هنالك ما هو قهري بهذا الشأن. هل ترى ما أرمي إليه؟ ليس لديك أي رصيد مميز، هذا كل ما أقوله، بشأن معرفتك كيف تخاف من المجهول. الخوف غزيرة بدائية عميقة، بكلمات أخرى، وهي غريزة متحولة وخطرة أيضا...لكنها مع كل ذلك ليست من الذكاء الخاص بشيء. طوال حياتي اليافعة غير المستقرة، تأقلمت مع خوفي كما لو أنه كان أكثر الأشياء المثيرة في شخصيتي، في حين أنه كان الشيء العادي عني. كانت الإبداعية فيَّ أصلية؛ حملت في داخلي شخصية كانت أصلية؛ كان عندي أحلامي ومنظوري وإلهامي في داخلي، كل الأشياء كانت أصلية. لكن خوفي لم يكن أصيلاً. لم يكن خوفي من النوع النادر المادي الفني؛ كنت مجرد عنصر من عناصر الإنتاج الضخم لدى كل إنسان، شعور متوفر لدى الجميع مثل أي منتج على الأرفف من أي صندوق في أي محل، متاح للجميع. وكانت أتساءل، هل هذا كل ما أردت بناء حياتي حوله؟ الخوف؟ الغريزة الأكثر مللاً والتي هي كامنة فيَّ ؟ ذاك الاضطراب النفعالي لأغبى علاجمي الداخلية؟ لا، لم تكن رغبتي أن يكون هذا الأمر محور حياتي. الفصل الرابع: الخوف الذي تحتاجه والخوف الذي لا تحتاجه قد تظن الآن أنني سأخبرك بأنك يجب أن تكون بلا مخاوف البتة حتى يسعك أن تعيش حياة إبداعية أكثر. لكنني لن أخبرك ذلك، لأنني لا أعتقد أن قيامي بذلك صحيح ومفيد. الإبداع درب الجسورين، نعم، لكنه ليس مساراً لعديمي الخوف، ومن المهم إدراك الفارق. الجسارة تعني القيام بشيء مرعب. عدم الخوف يعني عدم فهم ما تعنيه كلمة مرعب حتى. لو كان هدفك في الحياة أن تغدو شخصاً بلا مخاوف، بالتالي فإني أعتقد أنك من الآن على الطريق الخطأ، لأن الأشخاص عديمي الخوف هم الوحيدون الذين كانوا في الحقيقة شخصيات سيكوباثية أو كانوا طائشين وأعمارهم لم تتجاوز تتجاوز السنوات الثلاث، كانوا أطفالاً أغراراً، وهؤلاء ليسوا بحال نماذج للقدوة الحسنة لأي أحد. الحقيقة هي، أنك تحتاج للخوف، لأسباب جلية تتعلق بالحاجة الأساسية للحفاظ على حياتك. عملية التطور فعلت بنا خيراً عندما بات عندنا ردود أفعال بسبب الخوف في داخلنا، لأنك لو لم يكن لديك اية مخاوف، ستمضي حياةً قصيرة، مجنونة، غبية. ستقذف نفسك في طريق مزدحم بالسيارات. قد تنغمس في الغابات فتأكلك الدببة. قد تقفز في موجة ضخمة عند سواحل هاواي، مع أنك سباح ضعيف. قد تتزوجين شخصاً ما يقول في موعدكم الأول، "أنا لا أعتقد أن الناس بالضرورة مخلوقون ليكونوا غير معددين في علاقاتهم الزوجية." لذا، بالتأكيد، ضروري أنك تحتاج لخوفك، حتى تحمي نفسك من المخاطر الحقيقة مثل تلك المذكورة أعلاه. لكن، هل تحتاج لخوفك في عالم تعبيرك الإبداعي. بكل جدِّية، أنت لا تحتاجه. لأنك لن تحتاج لخوفك عندما يجيء الوقت للإبداع، بالطبع، لن يأتي خوفك في هذا الوضع. ثق بأن خوفك دوماً سيظهر في وقت ما-بالذات عندما تحاول أن تبدع أو تبتكر. خوفك دوما سيكون جاهزاً للانطلاق بفعل إبداعك، لأن إبداعك يسألك أن تدلف إلى عالم من نتائج غير متوقعة، والخوف يكره النتائج غير المتوقعة. إن خوفك مبرمج بفعل التطور ليكون لاهثاً ويحميك آنياً زيادة عن حاجتك. وسيفترض دوماً أن أي نتائج غير متوقعة تتجه إلى نهاية موت دموي ورهيب. أساساً، إن خوفك مثل حارس أمن في مجمع تجاري يظن أنه جندي بحرية يذود عن حدود البلاد: يشعر بأنه لم ينم لأيام، خلاياه مترعة بمشروبات الطاقة، وجاهز لإطلاق النار على ظله من أجل أن يكلل جهوده في المحافظة على إبقاء الجميع "آمنين". ومع هذا فإن كل هذا طبيعي وبشري. وهو ليس أمراً يجب أن نشعر بالعار منه إطلاقاً. إنه، على أي حال، شيء يحتاج أن نتعامل معه ونعالجه. الفصل الخامس: رحلة طويلة بالسيارة هكذا تعلمت كيف أتعامل مع خوفي: اتخذت قراراً منذ وقت طويل أنني لو أردت إبداعاً في حياتي -وأنا أريد ذلك- فإذاً علي أن أصنع مساحة للخوف، أيضا. مساحة كافية. قررت أن أبني حياة داخلية بتكاليف باهظة في حياتي بحيث يمكن للخوف والإبداعية أن يعيشا بسلام، منذ أن تبين لي أنهما دوماً سيكونان متلازمين. في الحقيقة، يظهر لي أن خوفي وإبداعيتي هما أساساً توأم متصل –ذلك لأن الدلائل تشير إلى حقيقة أن الخوف يسير بالضبط جنباً إلى جنب مع الإبداع، الخوف والإبداع تشاركا رحماً واحدة. ولدا في الوقت ذاته، ولا يزالان يشتركان في الأعضاء الحيوية نفسها. لذا يجدر بنا أن نكون حصيفين في كيفية التعامل مع مخاوفنا-لأنني لاحظت أن الناس الذين يحاولون أن يقتلوا مخاوفهما، غالباً ما ينتهي بهم المطاف بقتل إبداعهم بالخطأ أثناء العملية. لذا فأنا أحاول ألا أقتل خوفي. ألا أخوض حرباً ضده. وعوضاً عن ذلك، أصطنع المساحة له حتى في هذه اللحظة. أسمح لخوفي أن يعيش ويتنفس ويمد رجليه مرتاحاً. يبدو لي أنني كلما مقاومة خوفي، كلما قاومني بالمقابل. لو كنت أستطيع أن أسترخي، خوفي سيسترخي، أيضا. في الحقيقة، دوما ما أدعو خوفي بود ليأتي معي إلى أي مكان أذهب إليه. حتى أن لدي خطاباً ترحيبياً مجهزاً للخوف، والذي ألقيه مباشرة قبل القيام بمشروع جديد أو مغامرة كبرى. ويجري الخطاب على نحو مثل هذا: "خوفي العزيز: الإبداع وأنا نتهيأ للذهاب في رحلة طويلة بالسيارة. أفهم أنك تريد أن تنضم إلينا، لأنك دوما تريد ذلك. وأنا أعترف أن لديك وظيفة مهمة في حياتي، وأنك تضطلع بالمهمة هذه جدياً. ويظهر أن وظيفتك هي تعجيل حدوث الإرتباك الكامل في أي وقت أكون فيه على وشك القيام بشيء مثير للاهتمام-وأنا لو سمحت لي بالقول، أرى أنك بارعٌ في القيام بعملك هذا. لذا بكل صدق، أرجوك استمر بالقيام بوظيفتك، لو كنت تشعر بإلحاح القيام بها. لكني سأقوم بوظيفتي أيضا أثناء الرحلة، ألا وهي العمل بجد والمحافظة على تركيزي. والإبداع أيضا سيقوم بوظيفته، والتي هي الإبقاء على الإثارة والإلهام. هنالك مكان فسيح في هذه السيارة لنا جميعاً، فاعتبر نفسك في بيتك، لكن أرجوك افهم هذا التوجيه: إن الإبداع وإياي هما الشخصان الوحيدان المخولان لاتخاذ القرارات طوال الوقت. وأنا أدرك وأحترم أنك جزء من هذه العائلة، لذا فإنني لن أقصيك عن نشاطاتنا. لكن مع ذلك- فإن اقتراحاتك لن تُتًّبع. مسموح لك أن تتخذ مقعداً، ومسموح لك أن تسمعنا صوتك، لكنك ليس مسموحاً لك التصويت. ليس مسموحا لك أن تلمس الخرائط؛ ليس مسموحاً أن تقترح تحويلات للطريق؛ لا يسمح لك للعبث بدرجة الحرارة. يا صاح، ليس مسموحاً لك حتى أن تلمس المذياع. وفوق كل ذلك، يا عزيزي الصديق القديم المألوف، فإنه محرم عليك القيادة مطلقاً. ثم ننطلق جميعنا –أنا والإبداع والخوف- جنباً إلى جنب للأبد،، متقدمين مرة أخرى باتجاه شتى بِقاع دنيا الفرص المجهولة المروعة والبديعة في الآن ذاته. الخلاصة الخلاصة إن الإبداع أمر مرعب، وهو أمر غير مرعب أيضا في الوقت نفسه. إن ما نقوم به هو أمرفارق جداً، وهو كذلك -ياللمفارقة- لا يهم البتة أيضا. نحن نكابد الأشياء وحدنا، وتحيط بنا كذلك الأرواح. نحن مرعوبون طوال الوقت، وشجعان أيضا. إن ارتكاب الفن مهمة إنسانية تسحقنا وهي مع ذلك تمنحنا ذلك الامتياز البديع. فمعه تصبح الأمور جدية بالنسبة لنا بمجرد أن نصل إلى ذروة مساحة اللعب. أقول لك في هذه الخلاصة، تسامح م كل تلك المتناقضات واتخذ لها مساحة كافية مستوية بداخلك، وأعدك أنك ستصنع شيئاً. لذا، فرجاءً هدئ من روعك وعد إلى العمل، اتفقنا؟ إن الجواهر المخفية في دواخلك تتوق لك إلى أن تقبلها وتمنحها موافقتك للظهور في أجمل مظهر ممكن. |
***