هذا الكتاب طاردته طويلاً، ثم عثرت عليه في معرض الكتاب بالرياض قريبا، ثم ركنته في زاوية من المكتبة بحجمه الضخم جداً وطبعته الفاخرة فترة طويلة للغاية، هذا العنوان الباذخ الفخامة استحق هذه الطبعة الفاخرة من القطع الكبير، وكأنه أطلس ضخم، يروي الدكتور المتخصص في الأدب وتحقيق المخطوطات في الكتاب قصته في تحقيقه الميداني لطريق هروب الشاعر الضخم أبي الطيّب المتنبي من مصر كافور وعودته لبيته في الكوفه بالعراق، والمتنبي شخصية فريدة، وقصائده المسبوكة تكاد تكون معلقات عصر الشعر العربي الذهبي وعلامات في تألقه، وأجمل ما في قصائد المتنبي هي غوصها في دواخل النفس البشرية، ووصف علاقة البشري بالبشري، والاسترسال في شرح الطموح والشجاعة والكرم ونقائض ذلك، فنحن العرب نقول هاؤم المتنبي إذا قالت أقوام هذا هو ديستويفسكي أو فلوبير أو ديكنز أو كونفيشوس أو طاغور. والمثير عندي هو عناية المتنبي في توثيق شعره حسبما اقتضت ظروف أيامه، فأستحضر فكرة عرض شعره وشرحه وجمعه مع العالم بالعربية ابن جني، الرومي الذي تتلمذ في بغداد وأعجب بالمتنبي. والمتنبي طوّاف بالبلاد من شرقها لغربها، ويرقم رحلاته بالأبيات، فلا تنسى وهو في بلاد فارس قصيدته عن وادي بوّان، حيث يعانده حصانه، ويلبث عن سيف الدولة الأمير الكريم فتنشأ علاقة ولاء الموظف بمديره، ثم يغضب فيستقيل ويرحل إلى الشام فيتلقى توصية من أمير من تركستان ليكون الإعلامي اللامع والمقيّم للشعراء في دول الإخشيد المصرية لدى الوصي عليها كافور، القائد الصالح الذي كان من رقيق الحبشة. وتضيق مصر بما فيها من المضحكات على طموح هذا الرجل الخمسيني، فلا يتولى ولاية ولا ضيعة، وعلى الرغم من عيشه الرغيد فيها إلا أنه مقيّد، ويخشى هجاءه صاحب السلطان، كيف وقد سلق بلسانه أمير طرابلس الأخرق الذي ألحّ عليها أن يمدح فخلّد ذكره بأقذع الألفاظ والعياذ بالله، لكنها قصيدة تتفجر فيها حكمة النفوس، حيث أن لهوى النفوس سريرة لا تعلم. وزمن المتنبي يشبه زماناً، سياسياً ربما على الأقل، فدول كثيرة، وتشتت للجهد. وتحليلات الدكتور في كتابه وتتبعه الميداني للأماكن في قصيدة المتنبي الفاخرة المقصورة يلهب الوجدان ويجعل الإنسان يتمنى لو يزور تلك الأماكن ويهجر المدن لساعات أو أيام، لاسيما وأن تضاريس تلك البقاع عجيبة، فجبال حسمى وسيناء ووادي المياه والعيون في كل مكان، لا عجب أن لبس المتنبي أشهراً في رحلته، والوقت خصيب وربيعي، حيث خرج من مصر خفية في ليلة عيد الأضحى يوم عرفة أثناء انشغال البشر بعيدهم والتجهيز له، ويوافق يناير كما أذكر أو فبراير ويصل للكوفة في إبريل أو مايو، وعندما يصل يغني أغنية الوصول قصيدة يمدح فيها نوقه ويكرر معنى بصيرته بالطرق، كيف لا وهو الملوم الذي يجل عن الملام والذي يستريح بالهجير بلا لثام وبالفلاة، ودليله الخطير في تجوابه البلاد عبر عد بروق السماء. ولا يسعني أن أفارق هذا الكتاب وشخصيته المحورية الفريدة إلا بتذكر كلماته التي تحفز ابن آدم في العصور كلها ليملأ صورته رواءً من آدميته، فالإنسان غير كل شيء آخر وليساً شيئاً من الأشياء كما يدعي دعاة الضلالة.
|