ابن المقفع "مدرب معتمد" من القرن الثاني الهجري
ابتهجت بيني وبين نفسي قبيل مغرب أحد الأيام بعد أن انتهيت من قراءة كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع وهو كاتب من القرن الثاني الهجري لا تزال كتاباته وثقافته مصدراً للعلوم الاجتماعية. كانت بهجة من النوع الذي يصيبك بعد أن تعثر على فكرة حلوة. كانت الفكرة البهيجة أن هذا الكتاب كأنه كتاب كتبه "مدرب تطوير ذاتي" من عصرنا الحديث. في الطبعة التي قرأتها كانت العناوين تتابع في رأس كل فقرة، وكان من الشيق مطالعة عناوين مثل: الرأي والهوى عدوان وعلم نفسك قبل تعليم غيرك والصغير يصير كبيراً. نعم، إن ابن المقفع يحاول أن يرشدك في حياتك اليوم، أنت يا إنسان القرن الحادي والعشرين، يا من تحاصره نصائح وسائل التواصل الحقيقية والافتراضية، من التغريدة حتى الهولوجرام، إنه "كوتش" يحاول أن يرشدك إلى كيفية التصرف مع المدير ومع الشركة والمال والعلم والأقران. ومن أجل إتمام الفائدة من هذا المقال، فابن المقفع لم يترك صغيرة وكبيرة من أدب إلا عبر بها في كتابه الظريف الخفيف المركز. فهو ينصحك كيف تدير الأعمال فيقول: لا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل، والتوفيق والاجتهاد زوج، أحدهما سبب الآخر، ويقول أيضا في باب إدارة المخاطر إن صح التعبير: إذا تكاثرت عليك الأمور فاشتغل بأعظمها خطراً، فإذا أعجزتك فاختر أقربها معالجة حسب قدرتك، ولعل هذا هو ما تضعه مجالس الإدارات فيما يتعلق بقابلية المخاطرة (Risk Appetite). وينصحك في مجال عشرة الناس فيقول: وقِّر من فوقك، ولِن لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك وكأنه يومئ لأسلوب تقييم الشخصيات المسمى 360 درجة. ويختصر عليك الطريق عندما يحاول أن يقصر عليك مسافات التجربة وأوقاتها فيمحضك النصيحة حول مسألة عويصة مثل الأولويات فيقول أنك لن تتمكن من أن تفعل كل شيء لكل أحد بمالك وكرامتك وقلبك فاختص بمالك أصحاب الحق وبكرامتك أهل الفضل وقلبك فرغه للمهم. ومن نصائحه أيضا كانت كيفية تقرير قواعد تجمع بين المال والعقل فيخبرك أن المال فالحارس العقل والمحروس المال فاختر لنفسك. واقرأ أيضا فقرة تتحدث عن إصلاح السلطان أو الملك وستجد أنها تصب في صميم إصلاح نظام الشركات من حيث وظائف الإدارة ومراقبة الأداء. وفي فقرات أخرى تجده يخبرك أن من مصلحتك تحمل ما تكره وتصبر على ما تحب وأن الشجاعة الحقة شجاعتك على قوى الشر فيك وألا تخاف ما لا يُخاف ولا ترجُ ما لا يُدرك. الالتفاتة الأخيرة في هذا المقال مكرسة لفكرة ختامية وهي أن التراث الإنساني، منبع مهم لإنسان الشارع العادي، فلهذا لو تمكننا من توجيه انتباهه لجواهر الأدب والعلوم الخفية في أوراق التراث الصفراء والبيضاء وأيا كان لونها، من روحانيات الغزّالي، إلى فلسفة الكندي، وصولاً إلى الأدب الرفيع لابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن تيمية مع ابن القيم والقائمة تطول جداً، لكفينا الفرد والمجتمع الكثير من المتاعب. فمثلما تصطخب فضاءات التواصل الاجتماعي ومواقع الاستشارات في أيامنا هذه بمفهوم "الكوتشينغ" فقد كان لأشخاص في فجر الحضارة الإسلامية أثر مشابه لما يتداوله كل "كوتش" في يومنا الحاضر، ولا جديد إنما إعادة تدوير. |